"الرأسمالية مستقبلية في جوهرها، فالأفكار التي تقوم عليها اقتصادات السوق مثل النمو، والتراكم، والاستثمار، تعبر عن افتراض غير معلن بأن الغد سيكون مختلفًا وربما أفضل من اليوم. والسؤال الذي يتردد في الأسواق دائمًا ليس "ما الجيد؟" أو "ما الجميل" ولكنه حتما: "ما الجديد؟".
هذا ما تؤكده دراسة لمركز دراسات "بروكينجز" مضيفة أن المجتمعات الرأسمالية اعتادت دوما على التطلع إلى المستقبل، إلى اختراعات جديدة وآفاق أوسع ووفرة أكبر، أي أن "الوعود البراقة بمستقبل أفضل" هي كل ما تدور حوله رأسمالية السوق.
السكون قديمًا
ويعد التغيير ميزة وعيب، صحيح أنه يحمل الوعود بالفرص الجديدة إلا أنها مبهمة وغامضة في نفس الوقت، ولذلك، يشير منتقدو الرأسمالية أحيانًا إلى أنها تخلق مستقبلًا غير مؤكد.
ووفقاً للاقتصادي "جوزيف شومبيتر" فإن النمو الاقتصادي يتطلب نوعا من التغيير والتعطيل أو كما يسميه هو"التدمير الإبداعي"، والذي يمكن أن يفرض بعض التكاليف الاجتماعية العاجلة.
ويتضح ذلك إذا ما نظرنا إلى الصورة عن قرب فلا يعرف أحد إلى أين ستقودنا ديناميكيات السوق، فمثلا لم يتوقع أحد نمو شركات مثل"فيسبوك" أو "تويتر"، بينما انهارت شركات أخرى مثل "نوكيا" و"كوداك" إلى حد بعيد.
وتاريخياً ، فقد حافظت الرأسمالية على هذا الوعد (بأن يكون الغد أفضل) ومقارنة بالفترات السابقة، فقد تحسنت الظروف المادية للحياة بشكل كبير منذ ظهور الرأسمالية، حيث كان الإنتاج الاقتصادي المتوسط للشخص ثابتًا خلال الفترة ما بين عامي 1200 و1700، أي أن الاقتصاد بقي "شبه ساكن" لخمسة عقود متواصلة.
ولكن بمجرد دوران محرك الرأسمالية، دخل المستقبل في مخيلتنا الجماعية، وبدأت الروايات تصنع في خيالنا بصورة مختلفة حيث ولد "الخيال العلمي".
وبشكل أكثر عملية، أصبح التنبؤ الاقتصادي صناعة بحد ذاتها من خلال أسئلة مثل: كيف سيكون الاقتصاد الأمريكي في عام 2020 أو 2050؟ كم سيكون حجمه؟ وما هي سرعة نموه؟ ما هي الوظائف التي سوف يتضمنها؟ وكم عددها؟
تحديات الغد
وعادة ما تعمل الأسواق وفقا لعلم النفس. فنحن نعمل لنعيش، ولكننا نعمل أيضًا على أمل معقول في أن ذلك من شأنه أن يتيح لنا العيش بشكل أفضل في المستقبل عن طريق الحصول على المزيد من المكافآت من السوق مع تطورنا من حيث الخبرة والمهارة، ومن خلال الادخار.
ويظهر هنا ما وصفه "كينز" بأنه "سحر" الفائدة المركبة للاستفادة من التقدم الاقتصادي العام، وعلى المستوى الفردي قد نقول إننا ندخر ليوم ممطر ولكن إجمالاً تتيح المدخرات تراكم رأس المال بغية الاستثمار مما يحفز النمو. ونتيجة لهذه العمليات قد نتطلع في السنوات الأخيرة إلى اختراع حديث آخر.
وحالياً، يوجد ثلاثة تحديات كبيرة أمام الوعد الرأسمالي بتحقيق غد أفضل وتتمثل في تباطؤ نمو الدخل للكثيرين في حياتهم العملية وحتى التقاعد، وتراجع احتمالات قيام الأطفال، بعمل أفضل من آبائهم اقتصاديًا، وأزمة المناخ المتفاقمة.
أولاً: أصبح تحقيق دخل ثابت النمو بمرور الوقت أكثر صعوبة، حيث يتباطأ النمو ويتزايد التشكك في استمرار الوظائف. ويوضح البحث الذي قام به "مايكل كار" و"إميلي فايمرز" لجامعة "أكسفورد" أن فرص أصحاب الطبقة المتوسطة في الصعود إلى أعلى درجات سلم الأرباح قد انخفضت بنسبة 20٪ تقريبًا منذ أوائل الثمانينيات.
ليس فقط نمو الدخل بشكل أبطأ اليوم من جيل مضى، ولكن هناك أيضا تقلبات أكبر من حيث الأجور بالنسبة لبعض العمال، وعلى سبيل المثال تراجعت أجور العمالة الأقل مهارة بنسبة 20% في أعقاب الأزمة المالية العالمية واحتاجت سبع سنوات لتعود إلى مستوياتها السابقة.
أطفال المستقبل
ثانياً: أصبح الافتراض بأن أطفالنا سيفعلون ما هو أفضل منا في المستقبل (اقتصاديًا) بمثابة أمل مهدد بالتلاشي حيث استطاع تسعة من كل عشرة أميركيين من مواليد 1940 تحقيق ثروة أكثر مما حققه آباؤهم. أما أولئك الذين ولدوا في عام 1980 فإن النسب هي 50٪.
وقد توصل لهذا الاستنتاج الأستاذ في جامعة "هارفارد" "راج شيتي" وزملاؤه، وبكل تأكيد فإن نسبة الـ 50٪ لم تأخذ في الاعتبار الحجم المتناقص للأسر، وإذا ما تم أخذ ذلك بالاعتبار فستصبح النسبة 60٪ كما أنه كان لدى الأشخاص الذين ولدوا في عام 1940 والذين تضمنت سنوات عملهم الأولى الكساد العظيم مما يجعل من الأسهل تجاوزهم إلى حد بعيد.
ومع ذلك، تظل الحقيقة هي أن التنقل بين الأجيال (احتمالية تزايد الثروة) قد تباطأ. ويرجع ذلك لسببين رئيسيين تباطؤ النمو الاقتصادي، وتراكم عائدات هذا النمو لشريحة أصغر بكثير من السكان تعتلي قمة الهرم الاجتماعي. ويقدر "شيتي" أن حوالي 33% من انخفاض التنقل يمكن تفسيره بتباطؤ النمو، أما الباقي هو نتيجة تزايد عدم المساواة.
وهذا النقص في الدفع الاقتصادي بدأ يجد طريقه نحو الوعي العام، حيث يعتقد واحد فقط من كل ثلاثة آباء أمريكيين أن الجيل القادم سيكون أفضل، بينما يعد مستوى التشاؤم أعمق في العديد من الدول الأخرى، بما في ذلك المملكة المتحدة.
مستقبل أقل سطوعًا = استثمارات أقل
وإذا بدا المستقبل أقل سطوعًا بشكل عام، فقد يبدو من غير المنطقي الاستثمار في التعليم، أو المخاطرة في بدء عمل تجاري، أو الانتقال إلى مدينة أخرى بحثًا عن وظيفة أفضل، وهنا يجب التشديد على أن التفاعل بين الحقائق والمشاعر معقد؛ ولكن من المهم تحقيق توازن بين توضيح الاتجاهات المثيرة للقلق واللجوء إلى تراجع عام في كل شيء.
ثالثا: (التحدي الثالث) هو ببساطة تحد مادي وليس نفسياً ويتعلق بأزمة المناخ، حيث الارتفاع في درجات الحرارة عالميا، إلى ظواهر جوية أكثر تطرفاً مما يهدد بعض المناطق المكتظة بالسكان والنظم الزراعية.
وهنا أصبح من الضروري بالطبع أن نحسب التكلفة مقابل الأرباح. وإذا كان النمو الاقتصادي مسؤولاً عن تغيير المناخ، وهو كذلك بالفعل، فقد زاد الاحتباس الحراري بشكل كبير من الرفاهية المادية لمليارات البشر.
والسؤال هو ما إذا كانت الرأسمالية يمكن أن تكون جزءًا من الحل وليس جزءًا من المشكلة، ويمكن تحقيق هذا من خلال فرض ضريبة على الكربون مرتفعة بما يكفي لتغيير السلوك الاقتصادي بقوة. كما يفضل معظم الاقتصاديين فرض ضريبة على الكربون، فقد وقع نحو 3500 اقتصادي على بيان صدر مؤخرًا لدعم فرض تلك الضريبة من بينهم أربعة رؤساء سابقين للاحتياطي الفيدرالي وسبعة وعشرون من خبراء الاقتصاد الحائزين على جائزة نوبل وخمسة عشر رئيسًا سابقًا لمجلس المستشارين الاقتصاديين.
وعملياً فإن الوعد بمستقبل أفضل الذي يكمن في قلب علم النفس والنظرية الرأسمالية، يواجه حاليا تحديات كبيرة على ثلاث مستويات، والسؤال هو ما إذا كان يمكن استعادة هذا الوعد في إطار رأسمالي من خلال تأمين الأجور وإعادة التوزيع وضريبة الكربون مثلا، أو ما إذا كان النظام نفسه محل شك.
انبتاه "قديم-جديد"
ومنذ فترة كبيرة فطن البعض إلى أزمة الرأسمالية حيث أقر "جون ستيوارت ميل"، في عام 1848، بأنه " ما زالت زيادة الإنتاج تمثل هدفاً مهماً فقط في البلدان المتخلفة في العالم، أما في الدول الأكثر تقدماً، ما نحتاج إليه اقتصاديًا هو توزيع أفضل".
كما تنبأ "جون ماينارد كينز"، في مقالته الشهيرة لعام 1930" الاحتمالات الاقتصادية لأحفادنا " بأن المشكلة الاقتصادية ستحل خلال قرن من الزمان أو بمعنى آخر أن كل الاحتياجات المادية ستكون قد تحققت، وبناء على تلك التوقعات، فقد بقي أحد عشر عاما أخرى فقط لنصل إلى التاريخ الذي تنأ به "كينز".
غير أننا سنواجه ثلاث مشكلات أمام فكرة أن النمو الاقتصادي له تاريخ انتهاء صلاحية. أولاً ، لا يوجد أحد لديه طريقة جيدة لتحديد الوقت الكافي بالضبط، لأن أفكارنا عن الاكتفاء المادي تتغير أيضًا.
فمثلا كان معظم الأميركيين يعتبرون تكييف الهواء نوعا من "الرفاهية" في يوم من الأيام. أما اليوم فينظر إليه على أنه ضرورة ويمتلك نحو 86 ٪ من الأسر الأمريكية مكيفات هواء.
كما أنه لم يكن بإمكان "ميل" أن يتخيل السيارات التي كانت في عصر "كينز"، كما لم يستطع الأخير تخيل أجهزة الكمبيوتر الشخصية أو الكمبيوتر المحمول المتصل بشبكة لاسلكية على متن طائرة تعبر المحيط الأطلسي، وما إلى ذلك. ففكرة النمو الرأسمالي تكمن في أنه لا يوجد له نقطة نهاية.
"الحركة" هي الفيصل
كما أن الرأسمالية في جوهرها تقوم على النمو، فالأسواق لا تتمتع بأداء جيد ثابت ولكن المهم بقاؤها في حالة حركة مستمرة، وإنما هي مثل أسماك القرش إما تتحرك أو تموت، وبشكل عام لا يوجد أي نموذج أكاديمي أو تطبيقي لاقتصادات السوق لا يقوم على فكرة النمو.
لقد مر الآن أكثر من نصف قرن منذ قيام "ناد روما" بنشر"حدود النمو"، و"فريد هيرش" بنشر "الحدود الاجتماعية للنمو"، حيث أكد الأول أن استنزاف الموارد الطبيعية من شأنه أن يضع قيوداً على التقدم الاقتصادي، بينما يشير الثاني إلى أن المنافسة بين الأثرياء على السلع ذات القيمة على وجه التحديد بسبب ندرتها من شأنه أن يقلل من الرفاهية العامة.
وفي حين أن كلا التنبؤين ين انطلق من حقائق مهمة إلا أنه لم يثبت صحة أي منهما حتى الآن. فقد تباطأ النمو الذي تغذيه السوق مقارنة بالعقود المزدهرة في منتصف القرن الماضي، وأصبح أكثر ميلاً نحو الأغنياء ، لكنه لم يتوقف.
لذا يبقى التساؤل حول مستقبل الرأسمالية مقترنًا – وفقًا لدراسة "بروكينجنز"- بمدى قدرتها على الاستمرار في "الوعد" بمستقبل أفضل، فهذا الوعد هو "صنو" الرأسمالية، وإذا انتفى انتهت الأخيرة، إذا ما سيطر القلق وتراجعت توقعات النمو والحركة في الأسواق.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}