في الثاني والعشرين من يونيو/حزيران من عام 1941 وعند تمام الساعة الثالثة صباحاً ودون إعلان الحرب رسمياً، تسلل جنود من القوات المسلحة الألمانية "الفيرماخت"إلى الأراضي السوفيتية، قبل أن تلحق بهم 153 فرقة ألمانية مع فرق فنلندية ورومانية وسلوفاكية ومجرية، بالإضافة إلى فرقة من الفاشيين الإسبان.
ثلاثة ملايين رجل معهم أكثر من 600 ألف شاحنة و3 آلاف دبابة و7 آلاف مدفع و3 آلاف طائرة اجتاحوا جبهة طولها 2900 كم. وخلال الساعات الأربع والعشرين الأولى من هجومهم الكاسح تمكن الألمان من إسقاط أكثر من 300 طائرة سوفيتية وتدمير 1500 طائرة أخرى كانت متوقفة على الأرض، بينما لم يفقدوا هم سوى 35 طائرة فقط.
بأمر من "ستالين"
بعدها بنحو عشرة أيام، وتحديداً في الثالث من يوليو/تموز من عام 1941 ألقى الزعيم السوفيتي "جوزيف ستالين" عبر الإذاعة أشهر خطبه على الإطلاق وذلك تزامناً مع استمرار تقدم الألمان داخل الأراضي الروسية. بلكنته الجورجية بدأ "ستالين" خطابه بكلمات بدت غريبة على مسامع الروس، حيث قال:"إخوتي وأخواتي. كلماتي موجهة إليكم أيها الأصدقاء الأعزاء".
في الثلث الأخير من خطابه الطويل أعطى "العم جو" (كما كان يسميه الأمريكيون) الشعب الروسي الأمر التالي: "في حالة الانسحاب القسري لوحدات جيشنا الأحمر، لا تتركوا وراءكم أي سيارة أو مركبة أو عربة سكة حديد أو حتى رطل واحد من الحبوب أو جالون من الوقود."
ثم تابع قائلاً "يجب على المزارعين جمع ماشيتهم وحبوبهم والانتقال بها إلى عمق البلاد. دمروا أي شيء له قيمة إذا لم تستطيعوا حمله معكم، ولا تتركوه للعدو".
وتنفيذاً لأوامره المباشرة، قام الروس المنسحبون إلى الداخل نجاة بأنفسهم من بطش القوات الألمانية بتدمير ممتلكاتهم ومعظم البنية التحتية في مدنهم وذلك من أجل حرمان الغزاة من الاستفادة منها. بأيديهم، دمروا مصانعهم وشبكات توليد الكهرباء والاتصالات كما قاموا بتفجير الطرق والجسور والسدود بالإضافة إلى العديد من المناجم.
تلك كان سياسة ستالين... "الأرض المحروقة"
الأرض المحروقة هي استراتيجية عسكرية تقوم وفقها الجيوش المنسحبة بتدمير كل شيء في طريق انسحابها من أجل حرمان الجيوش المتقدمة من الغذاء والمأوى والموارد الطبيعية أو شيء آخر قد يكون مفيداً لهم.
والمثير للاهتمام هو أن سياسة "الأرض المحروقة" لها تطبيقات في عالم الشركات. فنفس السياسة تستخدمها الكثير من الشركات كاستراتيجية هدفها ردع أي محاولة استحواذ عليها، وهو ما يتم عادة من خلال اللجوء لتكتيكات تجعل الشركة المستهدفة أقل جاذبية، مثل بيع الأصول أو التورط عمداً في مستويات عالية من الديون أو الدخول في أنشطة أخرى قد تضر بالشركة إذا تم شراؤها.
ممنوع الاقتراب
هناك بند شهير يوجد في الكثير من السندات ذات الدرجة الاستثمارية التي تصدرها الشركات في أسواق رأس المال يتعلق بالتغيرات التي قد تحدث في هيكل السيطرة على الشركة.
هذا البند الذي يوجد في حوالي 25% من السندات الاستثمارية و75% من السندات المنتمية لدرجة المضاربة، وفق كتاب "الشركة مقسمة" الصادر عام 2017، هو عبارة عن شرط يلزم الشركة بسداد قروضها بالكامل فوراً إذا حدث أي تغيير بهوية من يسيطر على الشركة.
ببساطة، لنفترض مثلاً أن إدارة الشركة "س" العاملة بقطاع الإسمنت والمدرجة بسوق المال ترغب في حماية نفسها من أي عملية استحواذ مباغتة. حينها ستقوم الشركة وفق الاستراتيجية التي تسمى (poison put) باقتراض الكثير من الأموال من السوق من خلال إصدار سندات تحتوي على بند تلزم بموجبه نفسها بإعادة شراء تلك السندات من المستثمرين فوراً - أي قبل تاريخ استحقاقها - في حال حدوث أي تغير في هيكل السيطرة على الشركة.
ما سبق لم يكن سوى الجزء الأول من الخطة، حيث إن ذلك البند أيضاً غالباً ما يلزم الشركة بإعادة شراء هذه السندات بعلاوة. وإذا لم يكن بحوزة الشركة ما يكفي من الكاش للشراء فستجد نفسها مضطرة للذهاب إلى السوق مرة أخرى بحثاً عن إعادة تمويل السندات المستحقة.
في بعض الأحيان قد لا تكون الشركة قادرة على إعادة تمويل ديونها بنفسها أو الحصول على التمويل اللازم – لإعادة شراء هذه السندات – من أسواق رأس المال، مما يعرضها بشكل جاد لخطر الإفلاس. ولكن لماذا قد تطبق إدارة الشركة استراتيجية قد تؤدي في نهاية المطاف إلى إفلاسها.
باختصار، هذا السيناريو لن يحدث إلا في حال تم الاستحواذ على الشركة من قبل شركة أخرى، وحينها لن تكون مشكلتها بل مشكلة الشركة المستحوذة التي ستجد أنه تم رمي قنبلة موقوتة في حجرها. ولهذا السبب ستفكر أي شركة ترغب في الاستحواذ على "س" ألف مرة قبل أن تقدم على هذه الخطوة بسبب تكاليفها الباهظة.
ما يزيد الأمر تعقيداً بالنسبة للشركات الراغبة في الاستحواذ هو أن الشركات المستهدفة غالباً ما تكون عرضة لعمليات الاستحواذ العدائية في الوقت الذي تواجه فيه درجة من درجات الصعوبة المالية، وهذا بالضبط هو أسوأ وقت قد يتم خلاله مطالبة الشركات المستهدفة بسداد ديونها.
هذه الميكانيكية تجعل استراتيجية (poison put) بمثابة رادع قوي للراغبين في الاستحواذ على الشركة، لأنهم إذا نجحوا في شن غارة عليها فسيجدوا أنفسهم قد سيطروا على شركة مضطرة فوراً إلى إعادة تسديد ديونها في وقت هي فعلياً فيه غير قادرة على ذلك. من يرغب أن يضع نفسه في موقف كهذا؟
الشركة ترتدي حزاما ناسفا
من الشركات التي تستخدم هذه الاستراتيجية حالياً هي شركة الإنتاج السينمائي الكندية "ليونزجيت إنترتاينمنت". ففي السندات المصدرة من قبلها تلزم الشركة نفسها بالسداد الفوري لتلك السندات في حالة من اثنتين: الأولى حال استحوذ أي مستثمر على أكثر من 20% من أسهم الشركة، والثانية: سيطرة أعضاء جدد على أغلبية مجلس الإدارة.
بناءً على ما سبق، إذا حاول أي مستثمر الاستحواذ على أكثر من 20% من أسهم "ليونزجيت" في منتصف عام 2010 على سبيل المثال، فكانت الشركة ستضطر إلى التسديد الفوري لسندات قيمتها 199 مليون دولار، وذلك في نفس الوقت الذي لم تزد فيه حيازاتها من الكاش عن 79 مليون دولار. وساعتها كانت الشركة الكندية ستجد نفسها مجبرة على اقتراض المزيد من الأموال لسداد باقي المبلغ.
هذا كان هو السبب في إحجام المستثمر الأمريكي "مارك راشيسكي" عن زيادة حجم حصته في "ليونزجيت" بعد وصولها إلى 19.999% من أسهم الشركة. لأنه إذا تجاوزت حصته 20% بسهم واحد سيتم تنفيذ الشرط المدرج بسندات الشركة فوراً.
استراتيجية (poison put) التي تعتبر إلى حد كبير تجسيداً لسياسة الأرض المحروقة تعمل بشكل فعال لأنه منصوص عليها في العقود القانونية الخاصة بالسندات واتفاقيات القروض، وهو ما يعني أنه يجب تنفيذها فوراً ما لم يوافق المقرضون على التنازل عن هذا الشرط.
ولكن الواقع يشير إلى أنه من المستبعد أن تحدث هذه التنازلات من جانب المقرضين دون موافقة الشركة المستهدفة. وهذا ما يصعب من محاولة الالتفاف على هذا الشرط أو القفز فوقه، ويجعله تهديداً بالغ الجدية لكل من يفكر في الاستحواذ على أي شركة تنتهج هذه الاستراتيجية.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}