تحتل الخدمات المالية مكانًا متميزًا في الاقتصاد المعاصر، ويكفي الإشارة إلى أن أربعة من أكثر 10 المجالات تحقيقًا للأرباح خلال الأعوام العشرة الأخيرة تعد من بين الخدمات المالية، فإدارة الاستثمارات، وبنوك الادخار، والبنوك الإقليمية، والبنوك الكبرى تحصد أرباحًا بين 22-29.1% لتتبوأ مكانة متميزة بين المجالات الأعلى ربحية عالميًا.
تحريك الأصول
كما يظهر جليًا من اسمها، فإن الخدمات المالية تشمل الخدمات التقليدية للبنوك التجارية من الاحتفاظ بالودائع، والإقراض، وتضم كذلك ما تقدمه البنوك الاستثمارية من خدمات للعملاء الأكبر حجمًا، فضلًا عن النصائح التي يقدمها المستشارون الماليون بالاستثمار في مجال بعينه.
وتمتد الخدمات المالية لتشمل إدارة المحافظ المالية سواء في البورصة أو في الاستثمار طويل المدى، كما تعد مكاتب المحاسبة وشركات التأمين من مقدمي الخدمات المالية، غير أن الشكل الأهم للأخيرة يبقى في تحريك رؤوس الأموال، والتدفقات النقدية، عبر الصناعات والمجالات بل والدول.
وعلى سبيل المثال، تبدو بريطانيا الأكثر تأثرًا (سلبًا) بصناعة الخدمات المالية مؤخرًا، حيث تقدر مجموعة "إيرنست أند يانج" المحاسبية حجم الأصول التي قامت شركات الخدمات المالية بتحريكها من المملكة المتحدة منذ الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكسيت) وحتى الآن بحوالي تريليون دولار ذهبت كلها تقريبًا إلى دول الاتحاد.
وتشير التقديرات إلى أن هذا الحجم الكبير من التحركات سيتواصل بشكل أسرع بعد إقرار تفصيلي لاتفاقية الخروج البريطاني والبدء في تنفيذها، مع ملاحظة تقدير الشركة لحجم قطاع الخدمات المالية البنكية في بريطانيا بحوالي 8 تريليونات دولار تقريبًا.
وتسبب "بريكست" أيضًا في انتقال حوالي 7000 وظيفة في القطاع المالي فحسب من بريطانيا إلى القارة العجوز، كما استقرت الشركات المالية على استحداث 2000 وظيفة جديدة في أوروبا كان من المقرر قبل ذلك وضعها في بريطانيا.
وعلى الرغم من أن هذا يشكل نسبة محدودة للغاية مقارنة بحجم العاملين في قطاع الخدمات المالية الإنجليزي، والذين يقدر عددهم بـ2.3 مليون شخص وفقًا لتقرير لمجموعة "سيتي" إلا أن رمزية تلك الانتقالات تثير الشكوك حول استمرار لندن كمركز مالي عالمي.
نمو رغم الصعوبات
وتأتي البنوك كأحد أهم مقدمي الخدمات المالية بطبيعة الحال، وفي الولايات المتحدة على سبيل المثال حقق قطاع البنوك وحده أرباحًا قياسية قدرت بـ62 مليار دولار في الربع الثاني لعام 2018 بينما بلغت الأرباح 56 مليار دولار في الربع الأول والثالث لكل منهما، وذلك استغلالًا لحالة الانتعاش التي يحياها الاقتصاد الأمريكي.
وعلى الرغم من التراجع الواضح في معدلات النمو والاستهلاك بل وفي سوق الأسهم إلا أنه من المتوقع تحقيق القطاع المالي لمكاسب كبيرة في الربع الأخير من 2018 ليعكس قدرة القطاع المالي على تحقيق الأرباح في اقتصاد يتراجع نسبيًا.
بل وتراجع عدد البنوك التي توصف بأنها "تعاني صعوبات مالية" من 82 بنكًا بداية العام إلى 71 في نهايته، وذلك من أصل 5400 بنك يعمل في الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من أن هذا الأمر يبدو إيجابيًا إلا أنه يعكس توجهًا سلبيًا أيضًا يتمثل في حقيقة اتجاه العديد من البنوك للاعتماد على الإقراض قصير المدى، لما تصفه دراسة لجامعة "يل" للأفراد "الأشد ضعفًا" بما يضمن لتلك البنوك القدرة على التحصيل في مواجهة صغار المقترضين، فضلًا عن توجه الكثير من أموال البنوك لأغراض الاستهلاك وليس الاستثمار.
وعلى الرغم من أن هذا يخدم الشركات بشكل غير مباشر، بإمداد المستهلكين مما يحتاجونه من أموال لشراء السلع الغالية، كما يخدم تجار السيارات مثلًا بينما يؤذي تجار التجزئة، فعندما يقترض البعض لشراء سيارة جديدة فإنه يدفع قسطًا للبنك يمنعه من شراء ما اعتاد من سلع من متاجر التجزئة، بما ينعكس نموًا لقطاع وانكماشًا لآخر.
شركات الاستشارات
ويعتبر "بول ساموليسون" الاقتصادي الأمريكي الشهير الحائز على جائزة نوبل أنه من المنطقي أن تحقق الخدمات المالية أرباحًا طائلة بسبب "عدم الالتزام" الذي تتمتع به طبيعة وظيفتها، ففي الظروف العادية يقتصر الأمر على اقتراض المؤسسة المالية (البنك) للأموال من المودعين ثم إقراضها للمدينين بسعر فائدة أعلى ليحصد البنك الفارق بين الرقمين.
ولاحظ "ساموليسون" اتجاه بعض المؤسسات المالية لتحقيق أرباح "تؤذي" الاقتصاد، وضرب مثلًا بلجوء بعض المؤسسات المالية للمضاربة في سوق الأسهم والسندات المالية الأمريكية إبان الأزمة المالية العالمية بشكل مكثف، وعلى الرغم من تحقيق تلك الشركات لأرباح طائلة إلا أن صغار المضاربين في المقابل، والذين لا يتمتعون بنفس الخبرة والقدرات، خسروا مبالغ طائلة.
وتبرز شركات الخدمات المالية التي لا تقدم واقع الأمر إلا الاستشارات فحسب، مثل شركتي "برايس ووتر هاوس كوبر" و"ديلويت"، اللتين حققتا عائدات 41 مليار و43 مليار دولار على التوالي العام الماضي، لتعكس حجم مداخيل هذه الصناعة حتى دون تقديم خدمات ملموسة (كخدمات تحويل الأموال والاقتراض والإقراض).
وتقدم تلك الشركات خدمات مثل إدارة الثروات والأصول وإدارة الأصول التقليدية (مثل الأراضي والمعادن الثمينة) وإدارة الاستثمارات، وتقديم النصائح في شراء الأسهم والسندات، وتقييم مخاطر الاستثمار في دولة أو مجال بعينه.
تأثير غياب الخدمات المالية
ويرصد البنك الدولي عجز قرابة نصف سكان الكرة الأرضية عن الحصول على خدمات مالية، بما في ذلك حتى قدرتهم "البسيطة" على فتح حساب بنكي، بالأساس بسبب الفقر أو الإقامة في أماكن نائية، أو حتى عدم وجود مستوى تعليمي ملائم.
وبناء على دراسة للبنك فإن أكثر من 75% من فقراء العالم (الذين يحصلون على أقل من دولارين في اليوم) ليس لديهم أية تعاملات مالية رسمية على الإطلاق، بينما تزداد نسبة هؤلاء الحاصلين على تعليم أعلى من الابتدائي في الحصول على خدمات مالية بـ12% عن هؤلاء الحاصلين على التعليم الأساسي فحسب.
وتزيد نسبة هؤلاء الذين لا يحصلون على خدمات مالية ملائمة في الدول النامية بـ30% عن هؤلاء في الدول المتقدمة، مع مراعاة اختلافات الدخل بين الفريقين.
ويقدر البنك الدولي أن عدم إقحام هذه الأموال (أموال نصف سكان الأرض) في النظام المالي يؤدي لخسارة في النمو الاقتصادي العالمي تقدر بـ0.4-0.7% سنويًا من معدلات النمو، ولذلك أقر البنك الدولي مبادرة موسعة لمحاولة إدماج الفئات الأشد فقرًا في النظام المالي العالمي بما يفيدهم ويدعم الاقتصاد العالمي.
ويقدر البنك الدولي أن هناك أكثر من 200 مليون مشروع صغير ومتوسط لا تستطيع الحصول على تمويل ملائم بسبب قصور المؤسسات المالية عن القيام بدورها من جهة، ووجود نسبة كبيرة من أموال الأفراد في الدول الأشد فقرًا خارج النظام المالي.
وتزداد الأزمة مع حقيقة احتياج الفئات الأفقر للخدمات المالية المختلفة بصورة أكبر، في ظل محدودية الموارد المتاحة وإمكانية استفادتها من أي زيادة في الموارد جراء استغلالها في النظام المالي.
ولهذا السبب ازداد تقدير الحكومة الصينية لموقع "علي بابا" الذي أتاح خدمات تمويلية لحوالي 16 مليون مشروع صغير في الصين، وفقًا لتقديرات البنك الدولي، وسمح بنقل تلك الشركات من المنافسة المحلية المحدودة إلى المنافسة على مستوى الدولة ككل بل وعالميًا أيضًا.
ويشير موقع "سيكيوريتي إنتليجينس" (التابع لشركة "أي.بي.إم") إلى أن تكنولوجيا "بلوك تشين" تشكل فرصة كبيرة للغاية للإفلات من سيطرة الشركات المتحكمة في النظام المالي العالمي، ليس فقط من خلال العملات الرقمية، ولكن الأهم من خلال عمل تطبيقات لتحويل الأموال بدون وسيط فعلي وباستخدام وسيط رقمي فحسب.
ويعد هذا الأمر بمثابة تطوير لخدمات تحويل الأموال عبر شركات الجوال، والتي بدأت وانتشرت عبر الدول التي تعاني أمنيًا أول الأمر لتنتشر عبر العالم بعد ذلك، غير أن الأمر امتد وسيتوسع ليصبح باستخدام تطبيقات الجوال بدون حتى اللجوء للشركات المشغلة كوسيط.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}