"في الوقت الذي يتابع فيه المشاهدون أفلام (حرب النجوم) بشغف كبير، أترقب كتب الاقتصادي التشيكي - الكندي (فالكف سميل)، حيث تتسم كتبه بنظرة عميقة لا تهمل التفاصيل، ولكنها في الوقت نفسه تعطي صورة عامة شاملة، وهو ما لا يتمكن منه الكثير من الكتّاب، الذين إما يغرقون في التفاصيل ويهملون الصورة الكلية أو يفعلون العكس".
هكذا يرى "بيل جيتس" (فيما كتبه على مدونته الشهيرة "جيتس نوتس") كتاب "الطاقة والحضارة: تاريخ" لكاتبه "سميل"، حيث ينظر إليه بوصفه "ملخصا وافيا" وكافيا لتاريخ التطور الحضاري الإنساني والاقتصادي اعتمادًا على الطاقة التي تسود عصرًا معينًا.
الوفرة تقود للتنوع
ويقول "سميل" في كتابه إن النشاط الاقتصادي البشري بدأ على هيئة أناس يعملون في الجمع والالتقاط لتوفير ما يكفيهم من غذاء، ثم تطوروا قليلًا ليزرعوا بعض المحاصيل، وهنا حصلوا لأول مرة على أغذية تفوق حاجتهم، وبالتالي أصبح لديهم متسع من الوقت للتفكير وإعمال "طاقة العقل".
وعندما تطوروا إذ بهم يحصدون المزيد من الإنتاج بعد استخدامهم "طاقة الحيوانات" المفعّلة في الحرث واختراعهم للأدوات الزراعية، وتطويرهم لدورات الزراعة، وأساليب الري الفعال، والأسمدة وغيرها، لتزداد الوفرة في المحاصيل الزراعية وتظهر أنشطة مرتبطة بها مثل تربية الحيوانات.
ومع تنامي الوفرة الغذائية، ازدادت الكثافة السكانية، وبالتالي ظهرت أشكال جديدة من النشاط الاقتصادي، ومن استغلال الطاقات البشرية والحيوانية والطبيعية ازداد التنوع الاقتصادي وظهرت أشكال جديدة من استغلال الطاقة من أجل البناء الاقتصادي والحضاري.
ويمكن القول بأن الإنسان تمتع بميزة طبيعية (من الله سبحانه) عن بقية الكائنات الحية، فعلى سبيل المثال أثبتت الدراسات أن طريقة مشي الإنسان على قدمين توفر 75% من الطاقة التي تستغرقها الثدييات المشيمية الأخرى للسير على أربع، بل وحتى توفر الطاقة عمّا تستهلكه "القردة المتطورة" مثل الشامبنزي في السير على قدمين بسبب طبيعة المشي منتصبًا.
وفي المقابل، فإن دماغ الإنسان يستهلك 20-25% من طاقة الإنسان اليومية، بينما لا تتعدى النسبة 3-5% في الثدييات العادية و8% في الرئيسيات الأكثر تطورًا كالقرد والدولفين.
ومع استهلاك طاقة بدنية أقل وطاقة عقلية أكبر فإن الإنسان أصبح قادرًا على اختراع ما لا يمكن للكائنات الأخرى مضاهاته فيه، لتصبح "الطاقة العقلية" هي أهم وأول معاول بناء الحضارة البشرية، ومن خلالها تم اكتشاف بقية أنواع الطاقة وتسخيرها.
مرحلة "الطاقة البشرية"
ولعقود طويلة اعتمد الإنسان على طاقته هو (البشرية) من أجل بناء الحضارة، حتى في عصور الحضارات الكبيرة مثل الرومانية والإغريقية، فإن "طاقة العبيد" العاملين في التجديف في السفن الحربية والتجارية هي ما مكنت الحضارات القديمة من بلوغ قارات جديدة وإرساء قواعد لهذه الحضارات.
بل وتم استخدام الطاقة البشرية –وما زال ذلك يحدث حتى وقتنا الحاضر- في الحصول على الطاقة الأحفورية من الفحم للانتقال للمرحلة التالية من الحضارة، بما في ذلك (مثلًا) "العمل الوحشي" الذي تحملته النساء والفتيات اللاتي حملن الفحم ليصعدن سلالم طويلة من مكامر الفحم الاسكتلندية خلال الفترة التي سبقت تطوير الآلات التي حلّت محلهن.
ولذلك يؤكد الكتاب أن الانتقال من كل مرحلة في إنتاج الطاقة وبالتالي الحضارة تم باستخدام الوسائل من المرحلة التي سبقتها، فالانتقال من استخدام الخشب إلى الفحم كان يجب تحفيزه بواسطة العضلات البشرية التي حفرت المكامر وحملت الفحم منها.
كما أن القدرة على استخدام الفحم هي ما ولدت الطاقة اللازمة لحفر آبار البترول في المراحل الأولى، وفي وقتنا المعاصر فإن مصانع خلايا الطاقة الضوئية وطواحين الهواء تستخدم الوقود الأحفوري من أجل التطور لمرحلة قد تستغني عن الأخير لاحقًا.
كما أن الانتقال بين استخدام مختلف أشكال الطاقة لم يتم بين ليلة وضحاها، فقبل قرنين من الزمان وبينما كانت السكك الحديدية تسيطر على شحنات المسافات الطويلة والسفر في أوروبا والولايات المتحدة، ظلت وسائل النقل الرئيسية في المدن هي العربات التي تجرها الأحصنة، فيما يعكس استخدامًا مكثفًا للفحم ولطاقة الحيوانات في نفس العصر.
نقلة نوعية
وعلى الرغم من أهمية تطوير الطاقة، فإن علومًا أخرى كانت في مركز التطور الحضاري، فمثلًا الاستخدام الفعال للوقود الأحفوري كان يجب أن يسبقه قرون عديدة من التطور في علم المعادن، والكيمياء، وفهم الكهرومغناطيسية، ومجموعة واسعة من التقنيات المرتبطة بها.
وعلى سبيل المثال، فإن اكتشاف معادن الأفران القادرة على احتواء قوة احتراق الفحم أدى للتخلي عن تلك التي اعتمدت على حرق الأخشاب، وزاد بالتالي الإنتاج من الحديد من 800 ألف طن عام 1750، إلى أكثر من 30 مليون طن عام 1900، مع الانتشار الكبير لأفران الفحم.
وجاءت المائتا عام الأخيرة لتشكل "نقلة نوعية" في استخدام الطاقة، حيث بدأ البشر في استخدام الفحم أولًا ثم الغاز والنفط، لتتمكن الحضارة البشرية من تحقيق وفورات غير مسبوقة في الإنتاج، حيث إن "المحتوى الحراري" للوقود الأحفوري أتاح قوة غير مسبوقة لا تقارَن بحال بالطاقة البشرية أو الحيوانية أو الميكانيكية، أو حتى تلك المتولدة من احتراق الأخشاب.
يؤكد "سميل" أن الانطباعين الشائعين بكون القرن العشرين بمثابة "قرن النفط"، بينما هيمن الفحم على القرن التاسع عشر خاطئان؛ فقد كان الخشب أهم وقود قبل عام 1900 وليس الفحم، كما أن الفحم كان مهيمناً على القرن العشرين، وليس النفط، وتُظهر أفضل التقديرات أن استخدام الفحم خلال القرن الماضي فاق استخدام النفط بنحو 15% على الأقل.
ومع استقرار إنتاج الكهرباء فإن تشغيل المصانع بشكل منتظم دون الخضوع للعقبات اللوجستية المتعلقة بنقل الفحم أو الغاز أو النفط أصبح ممكنًا، بما انعكس على وفورات "يصعب قياسها" بسبب حجمها الكبير، إلا أن المؤكد كون حجم الإنتاج العالمي من مختلف السلع تضاعف مئات المرات لبعضها وآلافا في سلع أخرى.
مستقبل غير واضح
ولا مجال للشك في أن التحول عن الوقود الأحفوري أمر ضروري للمزيد من التطور للحضارة الإنسانية، غير أنه يبدو صعبًا للغاية، ويبدو توقيت حدوثه غير مؤكد حتى الآن، في ظل التداخل الكبير في استهلاك مختلف أنواع الطاقة في زمننا المعاصر.
والانتقال من الوقود الأحفوري ضروري، لأن استهلاكه يزعزع استقرار مناخنا بسرعة وبشكل متصاعد، ولأن احتياطيات الوقود الأحفوري يجري استنفادها ولن تتجدد في أي إطار زمني مناسب بحيث تستمر معدلات الاستهلاك والإنتاج الحالية قائمة لفترات طويلة.
ويبدو الانتقال من الوقود الأحفوري إلى المتجدد أو غيره صعبًا لسببين، الأول أن اقتصاداتنا الحديثة تعتمد في ازدهارها على نمو مطرد في الاستهلاك، والأخير يحركه استهلاك الوقود الأحفوري بالأساس، بما يجعل التخلي عنه في تلك المرحلة عسيرًا.
والسبب الثانى أن معظم سكان العالم ما زالوا غير قادرين على الوصول إلى كمية كافية من الطاقة لتوفير حتى الضروريات الأساسية لحياة صحية، بما يجعل من الصعب عليهم تحمل تكاليف الانتقال لنوع جديد من الطاقة بينما هم غير قادرين على تحمل تكلفة النوع القائم والأقل كلفة.
ويقول "سميل" إن الطاقة النووية تشكل فرصة هائلة للبشرية من أجل الانتقال إلى مرحلة حضارية مقبلة، مشيرًا إلى أنه من المعيب أن تكون أمة متقدمة مثل الولايات المتحدة تعتمد عليها في توليد 20% من الطاقة الكهربائية فحسب، بينما بوسعها الاستغناء تمامًا عن الوقود الأحفوري في توليد الكهرباء والاكتفاء به في وسائل النقل.
وعلى الرغم من أن توليد الكهرباء من الغاز أوفر من الطاقة النووية بطبيعة الحال، فإن دراسات عدة أشارت إلى أن التأثيرات البيئية والصحية لاستخدام الأول تنعكس سلبًا على الاقتصاد أيضًا، بما يجعل "ذريعة" التوفير غير صالحة على إطلاقها.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}