"أجهزة كهربائية، ماكينات صناعية، أجهزة جوال، خطوط توصيل الكهرباء والاتصالات، السيارات، أجهزة الكمبيوتر.. إلخ" كل هذه تعد أشكالاً مستحدثة في حياتنا المعاصرة، غير أن جميعها تعتمد على شكل من أشكال النشاط الاقتصادي القديم نوعا ما: التعدين.
فمن غير الممكن إنتاج أي من تلك الأجهزة دون استخدام كافة المعادن من نحاس وزنك وفضة وألمونيوم وغيرها، لكن دون وجود نشاط التعدين لم تكن تلك الصناعات لتحصل على خاماتها الضرورية لنعيش حياتنا المعاصرة، غير أن التعدين نشاط يبقى في الظل دائماً.
شركات عملاقة
وخلال الخمسة عشر عاماً الأخيرة تراوحت أرباح قطاع التعدين حول العالم بين 4-27% (باستثناء عام 2015 الذي شهد خسائر لقطاع التعدين) وكان متوسط نسبة الأرباح خلال تلك الأعوام أكثر من 14% في معدل استثنائي بالنسبة لهذه النوعية من "الاستثمار الآمن".
ويرجع السبب وراء اعتبار الاستثمار في التعدين آمناً أن العالم من حولنا لن يتوقف عن استخدام كافة أنواع المعادن (والفحم) بما يجعل الشركات العاملة في هذا المجال من بين الأضخم على الإطلاق حول العالم، فضلاً عن تحقيقها لنسب أرباح قياسية أيضاً.
وتشمل قائمة أبرز الشركات العاملة في مجال التعدين:
- "جلينكور" السويسرية (إيرادات 80 مليار دولار): التي تُعد أحد أكبر موردي السلع الأساسية ولاعباً هاماً في تجارتها عالمياً، وتعمل في إنتاج النحاس والقصدير والزنك والنيكل وخام الحديد، وتعمل في أكثر من 50 دولة ولديها أكثر من 150 موقع تعدين عملاقاً في قارات العالم الستة، ويعمل لديها قرابة 150 ألف شخص من موظفين وعمال.
- "ريو تينتو" (إيرادات 40 مليار دولار): وترتكز أعمالها في مجال خامات البوكسيت والحديد الخام والنحاس، بل والماس أيضاً، واشتق اسمها من أحد مناجمها في إسبانيا حيث تأسست قبل 145 عاماً لكنها شركة أنجلوأسترالية، ويعمل لديها قرابة 50 ألف موظف وعامل.
- "بي.إتش"بي بيلتون" (إيرادات 34 مليار دولار): وتعمل في اكتشاف اليورانيوم والفوسفات والفحم والمنجنيز، بل وتشمل أعمال الشركة التنقيب عن البترول والغاز الطبيعي في خليج المكسيك، ويعمل لديها 21 ألف موظف وعامل حول العالم.
وتتسع قائمة الشركات لتشمل "فالي" البرازيلية الشهيرة، وشركة "جياكشي" الصينية لإنتاج النحاس 31 مليار دولار، وغيرهم عشرات الشركات بحجم عائدات كبيرة للغاية.
أرباح قياسية
وتصل أرباح بعض تلك الشركات الكبيرة إلى ما يصل إلى 60% من حجم الإيرادات في بعض الحالات، مثل تسجيل شركة "يوراكالي" الروسية لأرباح وصلت 63% عام 2016، وعلى الرغم من أن هذا رقم استثنائي في الصناعة بالطبع إلا أن متوسط ربحية تلك الشركات يبلغ 25% في غالبية الأعوام.
ويصل حجم صافي أرباح أكبر 40 شركة للتعدين في العالم بأسره إلى ما يربو على 76 مليار دولار في عام 2018 (بحسابات حتى الربع الثالث وتقدير الربع الأخير) وفقاً لتقديرات دورية "ماينينج ويكلي"، لتحقق الشركات الأكبر نسباً أعلى من الشركات الصغيرة.
ويعتبر موقع "ماينينج" المختص في شؤون اقتصاديات التعدين أن الشركات العاملة في هذا المجال إحدى أعلى الشركات تحقيقاً للأرباح الصافية حول العالم، وأنه باستثناء السنوات التي تشهد "انقلاباً" في الاقتصاد العالمي فإن تحقيق تلك الشركات لهامش ربح كبير يبقى مضموناً إلى حد بعيد.
ويعود هذا الهامش الكبير للربحية إلى سببين؛ الأول: حقيقة أنه لا يمكن الاستغناء عن أي من المعادن التي توفرها تلك الشركات في الاقتصاد الحديث، فضلًا عن تزايد الاستهلاك (نتيجة لزيادة عدد البشر وتغير أنماطهم الاستهلاكية) وتراجع الاحتياطات المعدنية بشكل عام.
أما السبب الثاني: فعلى الرغم من قيام صناعة التعدين على مختلف أنحاء الكوكب بلا استثناء تقريباً، إلا أنها ترتكز بصورة أكبر في الدول النامية، حيث تكلفة العمالة فيها قليلة للغاية. ولأن التعدين في غالبية الحالات نشاط اقتصادي كثيف الاستخدام لعنصر العمالة فإن هذا يقلل من التكلفة التي يتكبدها المنتجون بشكل عام.
نمو وعقبات
وتتوقع دراسة لـ"ماكنزي" نمو نشاط التعدين بنسبة 4-6% خلال العقد المقبل، مع تباطؤ نسبي في الاقتصاد العالمي، غير أن النسبة ستتراجع إلى ما دون 3% إذا أصابت الاقتصادات الرئيسية حول العالم حالة من الركود.
وتعتبر الدراسة أن هناك مشكلة حالية في التعامل مع زيادة تكاليف الإنتاج في مختلف دول العالم مع إقرار قوانين بالحد الأدنى من الأجور من ناحية، ورفع الدول لتكلفة الوقود من جهة أخرى، فضلاً عن المشكلات المتعلقة بتدهور سعر صرف عملات بعض الدول المنتجة بما ينعكس تضخماً كبيراً وصعوبة لتحويل العملات المحلية إلى دولار أو يورو.
هذا بجانب العقبة الأساسية المتعلقة بـ"التكلفة الداخلية" حيث ترتفع تكلفة "صيانة وتشغيل" غالبية المناجم بنسب متفاوتة للغاية بعد 5-15 عاماً من التشغيل، مع ازدياد صعوبة استخراج الخامات، وبشكل عام تتراوح نسبة ارتفاع التكلفة من 7-55% وفقاً لطبيعة المعدن والخام وطريقة العمل وحتى شكل المنجم نفسه.
ولذلك يرفض "كريس تود" المسؤول عن تحليلات التعدين في (برايس ووتر هاوس كوبرز) في تصريحات لـ"ماينينج ويكلي" اعتبار التعدين نشاطاً اقتصادياً بلا مخاطر ويقول: "على الرغم من تحقيق الشركات لأرباح جيدة واستمرار توازن ميزانيات غالبية الشركات العاملة في التعدين إلا أن الأسعار لا تصعد بنفس النسب التي كانت تحدث منذ 10 سنوات مع الصعود اللافت للصين وطلبها المستمر على المعادن المختلفة".
ويضيف "تود" "ببساطة كل ما يحدث أن الصين طلبت خلال 2018 نفس ما طلبته خلال 2017 مع زيادة طفيفة للغاية في بعض المعادن، بما جعل السوق مستقرةً دون تراجع ولكن دون انتعاش في الأسعار"، مشدداً على ضرورة عمل الشركات العاملة في التعدين على تقليل نفقاتها بما يبقيها في السوق.
ويقودنا الحديث حول حتمية تخفيض النفقات إلى ما أوردته "يورو نيوز" حول اهتمام غالبية الناس حول العالم بالحصول على السلع التكنولوجيا المتقدمة، دون أن يهتم غالبيتهم بكيفية إنتاج هذه السلع والظروف التي يعمل فيها الناس في المناجم".
الكُلفة الإنسانية
وتضرب منظمة العفو الدولية مثالاً بجمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث الوفيات بين العاملين في مناجم الذهب والماس والنحاس هي الأعلى حول العالم، بسبب عدم توافر أية وسائل للأمن الصناعي في المناجم هناك.
وتضيف المنظمة في تقرير لها (2017) "من الطبيعي رؤية شخص ما يقف على حاجز ضيق للغاية على ارتفاع 30-60 متراً دون حتى ربطه بحبل ما، وأيضاً رؤية الأطفال يعملون في المناجم في ظروف "قاتلة" في مناجم الكونغو"
وتقدر "يونيسيف" عدد الأطفال العاملين في المناجم في الكونغو بحوالي 40 ألفاً، يعملون في مناجم ضيقة وظروف صعبة وبلا هواء متجدد، وبالحد الأدنى من الغذاء، بما يصيب نصفهم بأمراض التنفس وسوء التغذية، فضلاً عن تهديدهم جميعاً بالوفاة في الحوادث.
ولا يقتصر الأمر على الكونغو فحسب، بل يمتد إلى دولة مثل الهند، تنتج حوالي 60% من مادة الـ"ميكا" وهي تستخدم بكثافة في مستحضرات التجميل وبعض أنواع الطلاءات، ويعمل الأطفال هناك أيضاً في ظروف عمل قاسية للغاية بما يجعلهم أقرب للعمالة الإجبارية (العبودية).
وتمتد "التكلفة الإنسانية" لتشمل دولاً متقدمة، منها الولايات المتحدة نفسها، والتي كشفت دراسة لجمعية مكافحة السرطان الأمريكية أن السبب الرئيسي وراء ارتفاع نسبة إصابة الأمريكيين في ولاية "كنتاكي" و"ويست فيرجينيا" بمرض السرطان عن المعدل القومي هو مناجم (مكامر) الفحم هناك، حيث تتسبب في تلويث الجو في الولايتين بجزئيات الكربون الذي يؤذي الجسم ولاسيما الجهاز التنفسي كثيراً.
وتتسع القائمة لتشمل على سبيل المثال لا الحصر إنتاج الذهب في هندوراس، والفحم في الصين، والنحاس والفضة في موزمبيق، وفي إنتاج الذهب ومعادن أخرى في فنزويلا وتشيلي وغيرهم من دول أمريكا الجنوبية، والماس والذهب في جنوب إفريقيا (50 شخصاً ماتوا في حوادث في تلك المناجم خلال عام 2018 حتى الآن، رغم التحسن التدريجي لظروف العمل فيها مع نهاية نظام الفصل العنصري).
وعلى الرغم من تحسين بعض المناجم لظروف العاملين فيها من خلال التطور في التكنولوجيا باستخدام المثاقب وأدوات الحفر، والمباني سابقة التجهيز (لإيواء العمال)، فضلاً عن توسع بعضها في استخدام الطاقة النظيفة (وصلت إلى 40% من الطاقة المستخدمة في بعض المناجم) إلا أن تلك المبادرات محدودة أولاً، وغالبيتها في الدول المتقدمة ثانياً ليبقى التعدين "ضرورة" مربحة اقتصادياً، ولكنها عالية الكلفة إنسانياً على المستوى العالمي.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}