لا شك أن الخدمات تشكل عصب الاقتصاد الحديث، فبها تنمو الدول وتزدهر وتحقق معدلات نمو كبيرة خلال الأعوام الأخيرة، تليها الصناعة في مرتبة لاحقة -ولكنها قريبة- لتبدو الزراعة "مهملة" بعض الشيء في عالمنا المعاصر، لتنحصر وظيفتها الوحيدة في مجرد توفير الغذاء (على أهميته) وليس لتحقيق التنمية.
غير أن البلدان النامية التي لا تزال في طور التحول إلى الاقتصاد الحديث، وتمر بالمراحل الأولى للنمو عليها الاهتمام أولًا بالزراعة لكي تحقق الانتقال الاقتصادي للمستقبل وفقًا للكاتب "جون.دبليو ميلور" الأمريكي الجنسية الفرنسي الأصل ذي الإسهامات البارزة في اقتصادات الدول الفقيرة.
رواندا مثالًا
وعلى سبيل المثال تأتي رواندا الدولة الأفريقية الفقيرة، حيث 90% من السكان يعملون في القطاع الزراعي، وأكثر من 90% منهم يعانون الفقر، وبالتالي يبدو أن تنمية القطاع الزراعي هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق أية طفرة في الدخل الحقيقي للفئات الأكثر احتياجًا، بينما دعم الصناعات أو الخدمات بدون تأثير كبير.
فالأزمة الحقيقية أن الفقر في المدن مقترن بالهجرة من المناطق الريفية كرد فعل للتفاوتات الهائلة بين الدخل في الحضر ونظيره في الريف، فضلًا عن توافر الخدمات في المدن، غير أن الهجرة العشوائية المستمرة تعني انتقال سكان الريف إلى الأحياء الفقيرة في المدن وإلى عشوائياتها بما يبقيهم فقراء ويفقد الريف خدماتهم.
والمزارعون في الدول النامية فقراء لأنهم لا يستطيعون إيصال منتجاتهم للسوق العالمي، فبعض السلع الزراعية في أفريقيا يتم بيعها بحوالي 5% من سعرها في أوروبا، وإذا استطاع هؤلاء التواصل مع التجار في الخارج فسيزيد ذلك من حصيلتهم كثيرًا.
كما تزداد الأزمة في الدول النامية لأن المزارعين الأغنياء نسبيًا ينفقون حوالي 60% من دخلهم على المنتجات الزراعية، وتلك المرتبطة بها، مثل الألبان واللحوم، بينما يتم إنفاق الأربعين في المائة المتبقية على المنتجات الزراعية، أما المزارعون الفقراء فينفقون قرابة 85% من دخولهم على المنتجات الزراعية.
الآلات بدلًا من البشر
لذا ففي بعض الدول التي تشهد حيازات زراعية ضخمة للغاية تظهر أزمة مختلفة، مثلما يحدث في دول أمريكا الجنوبية، فإن ما يحصده شديدو الثراء من تلك المزارع الضخمة يتم إنفاقه لتمويل الاقتصاد الخدمي الحديث، بل وحتى للحصول على آلات تستبدل المزارعين وتزيدهم فقرًا، مقابل حصول أغنياء الغرب على السلع الزراعية بأثمان زهيدة للغاية مقارنة بالخدمات والسلع المصنعة.
وعلى سبيل المثال ففي رواندا، حقق الإنتاج الزراعي نموا بنسبة 5.3% خلال 2017 بمعدل نمو يبلغ 6.7% في القطاع الريفي غير الزراعي، غير أن النمو في حجم العمالة لم يتعد 3.2% بل ولم تزد أجور العاملين في الزراعة إطلاقًا خلال هذا العام.
وهنا يبرز تأثير الحكومات في توجيه النمو، من خلال أولى الخطوات وهي إقرار تشريعات تشجع المزارع كثيفة الاستهلاك للعمالة على حساب تلك التي تستخدم الآلات، لا سيما أن ذلك لن يؤثر بالسلب على تكلفة الإنتاج في ظل تدني أجور العاملين في القطاع الزراعي في تلك الدول.
كما تأتي أهمية التركيز على السلع التي تحقق وفورات أكبر، فعلى سبيل المثال فإن إنتاج الشاي والبطاطس والبن يحقق وفورات تزيد 20% عن إنتاج سلع أخرى عليها إقبال أكبر في الزراعة في الدولة الفقيرة، وذلك بسبب عدم وجود بيانات واضحة لدى المزارعين حول ربحية زراعة المنتجات المختلفة.
حل مشكلة البنية التحتية
كما يمكن التوسع في إنشاء المزارع الصغيرة التي تحقق نموًا مضطردًا للدخل للقطاعات الأشد فقرًا من خلال تبني أوسع لبرامج تجفيف المستنقعات، التي تشكل نسبة 9% في بلد مثل رواندا، وتشكل نسبًا أعلى في بعض دول أمريكا الجنوبية.
وتكمن أهمية مثل تلك البرامج في أنها توفر على الحكومات برامج أخرى مثل دعم السماد، ومحاولات تشجيع المستوردين والتجار لتوفيره بأسعار معقولة، فأراضي المستنقعات خصبة للغاية ولا تحتاج لبذل جهود كبيرة.
وتبقى الأزمة هنا في إمداد المناطق الأفقر والمزارع الصغيرة بما تحتاجه من الطرق والبنية التحتية من أجل إيصال منتجاتها للأسواق المحلية والخارجية، وهذا هو التحدي الحقيقي لتلك الدول التي تعوزها رؤوس الأموال.
ويقترح "ميلور" توفير رؤوس الأموال عن طريق مشاركة القطاع الخاص مع الحكومة، حيث ظهرت تجارب كثيرة إيجابية في هذا المجال، فالقطاع الخاص يوفر رؤوس الأموال لإقامة البنية التحتية للزراعة مقابل الحصول على بعض ثمار التنمية لتبدو معادلة "ربح مقابل ربح" وإلا ستبقى تلك الدول تعاني الفقر إن لم تعرف أن طريق تنميتها يبدأ من الزراعة وليس من غيرها.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}