في الساعات الأولى من صباح الثالث من يوليو/تموز من عام 1915 تسلل رجل يحمل مسدسين إلى قصر "لونج آيلاند" الذي يقطن به أقوى مصرفي في أمريكا "جيه بي مورجان الابن" قاصداً اغتياله، وذلك قبل أن يتم إحباط المحاولة من قبل الحرس ولكن بعد أن أصيب "مورجان" بطلقتين في الفخذ.
تبين لاحقاً أن الرجل المسلح الذي كان يعمل أستاذاً بجامعة هارفارد قد قام في اليوم السابق لهذه الحادثة بتفجير مبنى الكونجرس الأمريكي. وعلى الرغم من أنه لم تكن هناك صلة مباشرة بينه وبين الحكومة الألمانية إلا أن الأمريكان اعتقدوا أن الهجوم على "مورجان" كان جزءًا من سعي ألمانيا لوقف الدعم الأمريكي للحلفاء – بريطانيا وفرنسا تحديداً – في الحرب العالمية الأولى.
في ذلك الوقت، لم تكن الولايات المتحدة توفر أي دعم عسكري لأي من الأطراف المتنازعة في الحرب، فقد كانت محايدة سياسياً. ولكنها رغم ذلك لم تكن محايدة اقتصادياً، حيث إنها حرصت منذ الأيام الأولى للحرب على توفير الدعم المالي للبريطانيين والفرنسيين في حربهم ضد الألمان.
في بداية الصراع لعبت الولايات المتحدة دور التاجر المرابي. فبعد أن طال أمد الحرب وجد البريطانيون والفرنسيون أنفسهم في حاجة إلى قروض كبيرة إذا أرادوا أن ينتصروا في هذا الصراع. ومن هنا ظهر "مورجان" في الصورة. حيث كان أكثر من سعيد بتقديم هذه القروض لهم.
منح "مورجان" الحكومتين البريطانية والفرنسية قرضاً بقيمة 500 مليون دولار، وهو ما اعتبر حينها أكبر قرض في تاريخ وول ستريت. كان "مورجان" قوياً كفرد ويتمتع بنفوذ كبير جداً، وهذا ما دفع الرجل الذي يقف وراء محاولة اغتياله إلى الاعتقاد بأن التخلص منه قد يوقف الحرب فعلاً.
لكن عاش "مورجان" واستمرت الحرب بفضل القروض والإمدادات الأمريكية للحلفاء. بل إنه بخلاف القروض عمل "مورجان" كوسيط، حيث قام بنفسه بشراء احتياجات الحلفاء من الطعام والسلاح وإرسالها إليهم كل شهر.
في كتابه الشهير "الطوفان: الحرب العظمى، أمريكا وإعادة صنع النظام العالمي" الصادر في نهاية عام 2015 يروي المؤرخ البريطاني "آدم توز" جانبا مهما جداً للحرب العالمية الأولى تم إهماله لعقود، حيث تناول ظروف صعود الولايات المتحدة كقوى اقتصادية عظمى لأول مرة في التاريخ. وفي هذا التقرير سنستعرض معاً ملخصاً للقصة الرئيسية الواردة بذلك الكتاب.
اقترض واحصل على السلاح
بعد دخول الحرب العالمية الأولى عامها الثالث وجدت الأطراف المتحاربة نفسها عاجزة عن تحمل تكاليف النزاع الذي لم يتوقعوا أن يطول كثيراً، وهو ما دفع كلا من بريطانيا وفرنسا إلى اللجوء إلى الولايات المتحدة لتأمين احتياجاتهما من مؤن الحرب والتي تم تمويل معظمها بقروض أمريكية.
بريطانيا على سبيل المثال، اشترت في عام 1916 أكثر من ربع المحركات الخاصة بأسطولها البحري الجديد وأكثر من نصف احتياجاتها من أغلفة المقذوفات وما يزيد على ثلثي احتياجاتها من الحبوب وكل مؤنها النفطية تقريباً من مجموعة من الدول الأجنبية تتصدرهم الولايات المتحدة.
دفعت بريطانيا وفرنسا ثمن تلك المشتريات من خلال بيع سندات إلى مجموعة من المستثمرين الأمريكيين الذين اشترطوا أن تكون تلك السندات مقومة بالدولار وليس بالجنيه الإسترليني أو الفرنك السويسري. وبحلول عام 1916، بلغ مجموع القروض الأمريكية إلى بريطانيا وفرنسا حوالي ملياري دولار، وهو ما يعادل نحو 560 مليار دولار (وفقاً لحسابات "توز" المستندة إلى بيانات عام 2015).
مول وول ستريت معركة "السوم" التي بدأت بقيام الجيشين البريطاني والفرنسي بالهجوم على الجيش الألماني في نوفمبر/تشرين الثاني 1916، بينما قامت الحكومة الأمريكية بتمويل معركة "باشنديل" التي نشبت بين القوات البريطانية من جهة والألمانية من جهة أخرى في عام 1917.
باختصار، مول المستثمرون الأمريكيون المذبحة، وحرصوا طوال الوقت على أن لا تنفذ الخنادق وساحات المعارك من السلاح أو الذخيرة.
كان الحلفاء يحصلون على القروض من المستثمرين الأمريكيين باليمين، ويعطونها إلى المصانع الأمريكية التي توفر لهم الإمدادات باليسار.
وكان لهذه المشتريات الضخمة تأثير إيجابي مذهل على الاقتصاد الأمريكي، حيث تحولت المصانع الأمريكية من الإنتاج المدني إلى العسكري، وقام المزارعون الأمريكيون بزرع المزيد من الحبوب لإطعام القوى المتحاربة في أوروبا.
في البداية لم يهتم الأمريكان كثيراً بهوية المنتصر في هذه الحرب، ولكن مع تزايد حجم القروض البريطانية والفرنسية المملوكة لمستثمرين أمريكيين، شعرت الولايات المتحدة بضرورة الوقوف إلى جانب لندن وباريس إذا أرادت أن تسترد أموالها.
بعد أن دمروا بعضهم البعض .. أمريكا تدخل الحرب
لم يكن بوسع الحلفاء الانتصار في الحرب دون تدخل الولايات المتحدة. وبالفعل تدخلت أمريكا في عام 1917 في الحرب، بعد أن أبلغتها الاستخبارات البريطانية بأن ألمانيا تحاول سراً إقناع المكسيك بإعلان الحرب على الولايات المتحدة، وبدأت برلين حرب الغواصات المفتوحة، وهو نوع من الحروب البحرية التي تغرق فيها الغواصات جميع السفن بما في ذلك المحايدة منها دون أي إنذار.
الولايات المتحدة التي لم تقع أي معركة على أراضيها مما جنب سكانها المدنيين وبنيتها التحتية أي خسائر أو أضرار دخلت الحرب في أبريل/نيسان 1917 بعد أن استنزفت جميع الأطراف المتحاربة قوتها ومواردها المالية. وهكذا استطاعت قواتها غير المنهكة ترجيح الكفة ناحية الحلفاء.
قبل التدخل الأمريكي، كانت كل أطراف الحرب بلا استثناء تتفنن في تدمير بعضها البعض بشتى الطرق الممكنة. فعلى أحد الجانبين، وقف البريطانيون إلى جانب الفرنسيين والروس واليابانيين والطليان والصرب والرومانيين في مواجهة كل من الألمان والنمساويين والمجريين والعثمانيين والبلغاريين الواقفين على الجانب الآخر.
في نهاية المطاف، اشترك أكثر من 70 مليون إنسان في الصراع الذي شهد استخدام الأسلحة الكيميائية والقصف الجوي وحروب الخنادق والقتال اليدوي والحصار الاقتصادي. وخسر حوالي 16 مليون شخص حياتهم، من بينهم 7 ملايين مدني، بينما أصيب أكثر من 20 مليوناً بجروح.
جرفت الحرب العالمية الأولى القوى العالمية القديمة سواء المنتصرة والخاسرة كالطوفان. وأدى الصراع الذي دام لأربع سنوات إلى تغييرات سياسية واقتصادية وثقافية لا تزال آثارها باقية إلى اليوم.
ففي الوقت الذي صمتت فيه المدافع، كانت الإمبراطوريات الروسية والألمانية والعثمانية والمجرية في حالة خراب حرفياً. بينما اندلعت الثورات في جميع أنحاء أوروبا. وفي نفس الوقت تورطت الصين في حرب أهلية.
أما بالنسبة لبريطانيا وفرنسا، فعلى الرغم من انتصارهما في الحرب بتكلفة بشرية هائلة وبمساعدة مالية وعسكرية من الولايات المتحدة إلا أن الدولتين الأوروبيتين خرجتا من الصراع تزحفان اقتصادياً.
في وسط كل هذا الخراب الذي كانت تعاني منه كل القوى الرئيسية في العالم، ظهرت الولايات المتحدة لأول مرة باعتبارها قوة عظمى، عقب تجاوز اقتصادها لنظيره البريطاني ليصبح الأكبر في العالم في عام 1916، وذلك بعد أن كان يعاني من الركود قبل اندلاع الحرب مباشرة.
كانت أمريكا هي المستفيد الرئيسي وربما الوحيد من الصراع الذي تورط فيه الأوروبيون لحظة اغتيال وريث عرش الإمبراطورية النمساوية المجرية في يونيو/حزيران 1914.
الديون تُذل
بعد انتهاء الحرب، استخدمت واشنطن ورقة الديون في إعادة تشكيل توازن القوى العالمية، وقامت باستدعاء القادة الأوروبيين إلى البيت الأبيض بدلاً من الاجتماع معهم في عواصمهم، وحصلت منهم على تنازلات كبيرة مقابل تحسين شروط السداد.
بحلول موعد مؤتمر واشنطن البحري الذي عقد في نوفمبر/تشرين الثاني 1921، وجدت حكومات بريطانيا وفرنسا وإيطاليا نفسها مدينة بحوالي 9.8 مليار دولار إلى الأمريكيين. وهكذا حولت الحرب أمريكا من مدين إلى دائن لأول مرة في تاريخها.
ضمن اتفاق لتسوية ديون الحرب، وافقت لندن في عام 1923 على دفع ما مجموعه 4.6 مليار دولار إلى الولايات المتحدة بسعر فائدة يبلغ 3.3% على دفعات سنوية. وكانت قيمة كل دفعة تبلغ 162 مليون جنيه إسترليني، وهو ما كان يعادل ميزانية التعليم البريطانية.
في تلك اللحظة، كانت الولايات المتحدة تدين نصف العالم تقريباً، وهو ما أهلها لتصبح نقطة ارتكاز للنظام المالي العالمي الذي نجحت في الهيمنة عليه خلال السنوات التالية. لم يكن بوسع الأوروبيين وبالأخص البريطانيين سوى القبول بحقيقة أن الولايات المتحدة أصبحت المتحكم الرئيسي بكل الشواغل الأمنية والمالية الخاصة بالدول الكبرى الأخرى في العالم.
الدول التي اشتكت من صعوبة شروط السداد وعدم قدرتها على السداد، نصحتها الولايات المتحدة بخفض إنفاقها الأمني والعسكري. وهكذا ظهر نظام أوروبي جديد يعيش تحت مظلة الحماية الأمريكية.
ولكن لا شيء يدوم إلى الأبد. فالأساس الذي يقوم عليه النظام العالمي الحالي هو الهيمنة الاقتصادية الأمريكية المستمرة منذ أكثر من قرن. غير أن هذه الهيمنة أصبحت مهددة الآن أكثر من أي وقت مضى من الصين التي تمشي بخطى ثابتة ناحية تحقيق ما فشل السوفيت والألمان في عز مجدهما في تحقيقه، وهو التكافؤ الاقتصادي مع الولايات المتحدة.
لم تحقق الصين هذا التكافؤ بعد، ولكنها قريبة. الأمر ربما يستغرق عقدين، وربما أكثر إذا تعرض الاقتصاد الصيني لأزمة غير متوقعة. ولكن حين يحدث ذلك، سيتغير حتماً شكل العالم الذي نعرفه الآن.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}