مع اندلاع الشرارة الأولى للحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، ظهرت مؤشرات كثيرة على رغبة صينية حقيقية ليس فقط في التفوق أو "التلاعب" بقواعد اللعبة الاقتصادية عالميًا بل في تغيير تلك القواعد، لا سيما مع تضررها منها مؤخرًا بفعل القيود التجارية التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب".
العملة الصينية
وأولى "إرهاصات" الرغبة الصينية في تغيير شكل القواعد هي "رؤية 2050" للصين، بأن تصبح هي القوة الاقتصادية الأولى في العالم، ويستلزم ذلك وفقًا لتقرير نشره الحزب الشيوعي الصيني الحاكم علانية -خلافًا للمعتاد- تنويع مصادر الإنتاج بعيدًا عن فكرة الإنتاج الرخيص الضخم الذي تعتمده الصين كمصدر رئيس لنموها الاقتصادي خلال عقود.
وكشفت صحيفة "ساوث إيست شاينا" الصينية عن نية بكين "زيادة الاعتماد" على اليوان الصين في مشترياتها وتعاملاتها المستقبلية، إذ بدأت الحكومة في "اختبار" رد فعل الأسواق العالمية بأكثر من طريقة منها شراء كميات صغيرة من النفط بعملتها المحلية ناهيك عن إطلاق تداول عقود نفط مسعرة باليوان في بورصة شنغهاي قبل نهاية مارس/آذار، وإصدار السندات الروسية مؤخرًا مقومة باليوان (بكميات صغيرة أيًضًا لم تتجاوز مليار دولار). ولاقت الخطوات الصينية استجابة إيجابية من الأسواق بالفعل في الحالتين.
وعلى الرغم من التأثير السلبي للخطوة الصينية "المرتقبة" بمحاولة زيادة الاعتماد العالمي على اليوان، حيث ذلك سيدعم ذلك رفع سعره، وبالتالي الحد من الميزة التنافسية للمنتجات الصينية، إلا أنه يبدو متسقًا مع الرغبة الصينية في "تنويع الإنتاج" بعيدًا عن ذلك "الرخيص"، وتغيير لقاعدة مستقرة في النظام الاقتصادي العالمي بالاعتماد على الدولار كالعملة الأولى عالميًا.
كما ترغب بكين في تغيير القواعد التي تدار بها "منظمة التجارة العالمية"، إذ طالبت الصين المنظمة باعتمادها كـ"اقتصاد سوق كامل"، مشيرة في طلبها للمنظمة الدولية إلى أن الطريقة التي نشأت بها الأخيرة وتعمل من خلالها "غير ملائمة" في تقدير ما إذا كان الاقتصاد ملائمًا لمتطلبات السوق الحر أم لا، في إشارة لرغبة بكين حتى في إعادة تنظيم عمل المؤسسة الدولية وقواعدها.
فرق تسد
وتعتبر "فورين أفيرز" رد الفعل الصيني باستهداف الصادرات الأمريكية من المنتجات البحرية والزراعية بمثابة تغيير لقواعد اللعبة أيضًا، حيث جاء الرد الصيني "ذكيًا و"خبيثًا" باستهداف سلع الفئات الأشد فقرًا في واشنطن، وليس السلع الأعلى ثمنًا أو الأكثر ربحية، بما يوحي برغبة صينية في استخدام العقوبات لضرب إسفين داخلي بين الإدارة الأمريكية وبعض مواطنيها.
كما يأتي التهديد الصيني الصريح –من خلال وكالة الأنباء الرسمية- باستهداف الشركات الأمريكية التي تستثمر في الصين لتضع قواعد جديدة للعبة طالما اعتبرت فيها الدول استثمارات الدول الأخرى الخاصة بمثابة "خط أحمر"، لسبب بسيط للغاية وهو رغبة الدول في الاستمرار في جذب الاستثمارات.
ووفقًا لموقع "ذا بالنس" فهذه ليست هي الحادثة الأولى التي تستهدف فيها استثمارات دولة بعينها، حيث سبق واستهدفت استثمارات التعدين اليابانية لديها، والشركات النرويجية المنتجة للأسماك، وسلاسل متاجر التجزئة الكورية وذلك كله في إطار المحاولات الصينية للضغط على تلك الدول.
بل وتحاول الصين ألا يكون انخراطها في النظام التجاري "أحادي الجانب"، حيث بدأت الدولة في السماح لوارداتها بالارتفاع في عام 2017 لتصل إلى 1.83 تريليون دولار، وذلك بعد 3 أعوام من سياسات مكثفة لخفض الوارادات بعد أن وصلت 1.9 تريليون دولار عام 2014، والسبب وراء الرغبة في زيادة الواردات بعد خفضها هو زيادة اعتمادية الدول على الأموال الصينية وبالتالي مساندتها في مواجهتها ضد الولايات المتحدة.
تأثير "ترامب"
وتعتمد بكين هنا على الكثير من الاتفاقيات التي أبرمتها خلال الأشهر أو الأعوام الأخيرة، والتي تتضمن قواعد تفضيلية للتجارة بينها وبين أطراف أخرى، ولعل أبرزها مبادرة "حزام واحد طريق واحد" التي أقرتها الصين عام 2013 وتقر بموجبها علاقات استثمارية استثنائية مع دول جنوب وشرق آسيا والشرق الأوسط وأوروبا وإفريقيا بتمويل صيني يبلغ 126 مليار دولار.
وأقرت "كريستين لاغارد" مديرة صندوق النقد الدولي بـ"التأثير اللافت" لتلك المبادرة بعد 5 أعوام من إقرارها في إمداد دول بحاجة ماسة للبنية التحتية، وذلك فضلًا عن التعهد الأخير لبكين بعمل "مشروع مارشال" لدول الشرق الأوسط تنفق فيه الصين 20 مليار دولار للمساهمة في نمو دول المنطقة، لتبدو حريصة على منافسة واشنطن في منطقة نفوذها السياسي والاقتصادي الرئيسية.
وترصد "فورين بوليسي" المحاولات الصينية لتغيير شكل الاقتصاد العالمي، معتبرة أن الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" يساعدها على ذلك، ففي الوقت الذي تسعى فيه الصين لإيقاف الإضعاف المتعمد لعملتها يبدو "ترامب سعيدًا بـ"دولار أمريكي ضعيف"، وبينما تنفتح الصين أكثر على شركائها التجاريين يثير الرئيس الأمريكي قلقهم باستمرار، وبينما تسعى واشنطن لإبقاء الاستثمارات الأمريكية في البلاد توسع بكين إنفاقها الاستثماري خارجيًا، بما سيصب في تقوية الموقف الصيني عالميًا نحو إجراء تعديلات مهمة على القواعد الحاكمة للنظام الاقتصادي العالمي.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}