بدأ النشاط الاقتصادي للإنسان بصورة بسيطة سواء من خلال حرفتي الجمع والالتقاط أو الرعي، ثم تطور تدريجيًا ليشمل الزراعة ثم الصناعة ثم الخدمات وأخيرًا اقتصاد المعلومات، ومع وصوله لكل مرحلة تقل قيمة المرحلة السابقة بشكل تدريجي، حتى انقرضت حرفتا الجمع والالتقاط والرعي إلى حد كبير.
وتعتبر الزراعة وسيلة تحول الإنسان إلى الحضارة بسماحها بإنتاج الغذاء بوفرة أكبر والتخلص من آثار الطبيعة المتقلبة على إنتاجه، وعلى الرغم من أهميتها إلا أنها تعاني من تراجع كبير في الربحية مما يثير التساؤل عن مدى إمكانية الاعتماد عليها كـ"مشروع مربح" لتشغيل رأس المال.
الدعم والتكنولوجيا
وعلى سبيل المثال تأتي الولايات المتحدة كإحدى أكثر الدول تحقيقًا للإيرادات في القطاع الزراعي بسبب طبيعة تنظيمه المتقدمة والمشروعات الكبيرة بها، ورغم ذلك يعمل في الزراعة 2% من القوة العاملة في البلاد، وتولد 1% فحسب من الناتج القومي الإجمالي لأن الزراعة تولد نصف نسبة العائدات (قياسًا إلى حجم رأس المال البشري المُستثمر) التي يولدها قطاعا الصناعة والخدمات.
وهذا ما يضطر الحكومة الأمريكية لدعم إنتاج 9 أنواع من المحاصيل الزراعية من ضمنها فول الصويا والذرة والقمح، ويصل الدعم الحكومي إلى قرابة 40% من منتجي الزراعة في البلاد، وذلك من خلال توفير السماد والمقويات بأسعار رمزية، فضلًا عن شراء الحكومة لسلع استراتيجية في بعض الأحيان كما هو الحال مع القمح.
ويصعب تحديد مبلغ معين يتم إنفاقه سنويًا على دعم الزراعة في الولايات المتحدة أو أوروبا، لاختلاف نسب الدعم سنويًا بشكل كبير مع التقلبات في السوق ووفقًا لطبيعة المحاصيل المستهدفة بالدعم، وتكفي الإشارة إلى أن الدعم الأوروربي للزراعة كان أحد أسباب تصويت الكثير من المزارعين الإنجليز لمصلحة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي.
فالمزارعون الأوروبيون يحصلون على دعم يصل إلى 40-50% من تكلفة الإنتاج لتمويل زراعتهم لبعض المحاصيل (نسب الدعم تتغير باستمرار)، ولا يتعدى الدعم الذي يحصل عليه المزارعون في بريطانيا 10-20% بما يعطي الأغذية الأوروبية ميزة تنافسية في مواجهة نظيرتها الإنجليزية لا سيما مع غياب الجمارك وحرية تبادل السلع.
الدول النامية وأوضاع عسيرة
وفي الدول النامية يزداد الوضع سوءًا، فمع الدعم الذي يحصل عليه المزارعون في الدول المتقدمة، ومع الأساليب الأكثر تقدمًا التي يستخدمونها، يصبح مزارعو الدول الأقل نموًا مضطرين لبيع منتجاتهم بأسعار زهيدة قياسًا بتكلفة الإنتاج لتنافسهم مع نظرائهم المتمتعين بالدعم ومزايا تكنولوجية وتقنية أفضل.
ولذلك تشير دراسة لكلية لجامعة "ييل" إلى تحقيق الزراعة في الدول المتقدمة لعائدات تقترب من 20-25% سنويًا في غالبية المحاصيل المتعلقة بالإنتاج الكبير، بينما تقل النسبة كثيرًا إذا لم يستفد المشروع من اقتصادات الوفرة، وهو ما يحدث في غالبية الحالات أيضًا في الدول المتقدمة، وتقل النسب كثيرًا في الدول النامية التي يصعب تحديد نسب أرباح فيها لتغيرها المستمر مع الظروف المناخية ونوع المحصول المزروع وغيرها.
بل وفي الولايات المتحدة نفسها، تحقق الشركات الزراعية العملاقة أرباحًا تقل كثيرًا عن نظيرتها الصناعية أو الخدمية، وعلى سبيل المثال حققت كبرى الشركات في هذا المجال، "كارجيل"، حوالي 3 مليارات دولار كأرباح من أصل 110 مليارات دولار عائدات لعام 2016 بما يؤكد ضعف نسب الأرباح في القطاع الزراعي حتى في الشركات العملاقة، حيث ترجع "فوربس" بقاء شركة مثل "كارجيل" عاملة في الزراعة للآن إلى امتلاكها من قبل عائلة واحدة ترتبط بهذا النشاط منذ أكثر من 150 عامًا وتراه ميراثًا لها قبل أي دوافع اقتصادية للاستمرار في نشاط لا يحقق أرباحًا كغيره.
وعلى الرغم من تمتع الزراعة بمرونة عالية في الإنتاج بسبب إمكانية تغيير المحصول المزروع بسهولة أكبر من طبيعة تغيير المنتجات الصناعية أو الخدمية لاعتماد الأخيرة على استثمارات رأسمالية أكبر يصعب تغييرها بسهولة، إلا أنها تبقى عرضة أيضًا للتغيرات المناخية والتقلبات الشديدة في العرض والطلب وهو ما لا يحدث في حالتي الزراعة والخدمات.
لماذا لا يغير المزارعون مهنتهم؟
ويصف المنتدى الاقتصادي العالمي حال المزارعين في الدول النامية بأنهم "يتضورون جوعًا بينما يوفرون الغذاء للعالم"، بسبب ضعف العائد المادي وراء الزراعة، مما يدعو للتساؤل حول أسباب استمرار المزارعين في مهنتهم رغم تراجع الأرباح، لا سيما في الدول النامية. ففي دولة مثل أوغندا يعمل 70% من السكان في الزراعة ولا يحصدون إلا ربع الناتج المحلي الإجمالي وفقًا لإحصاءات البنك الدولي.
وتفسر دراسة لجامعة نيودلهي استمرار المزارعين في أنشطتهم في الدول النامية، ومنها الهند، رغم ضعف العائدات إلى الأسباب التالية، وفي مقدمتها صعوبة تغيير النشاط، ففي ظل معاناة أغلبهم من محدودية رأس المال، فغالبية المزارعين يملكون قطع أراض لا تتجاوز بضعة أفدنة، وربما أقل، من الأرض بما يجعل عائد بيعهم متدنيًا ولا يسمح بتأسيس مشاريع صناعية أو خدمية.
كما يعاني المزارعون الأمية أيضًا بما يحول دونهم ودون تغيير المهنة، فالكثير من مزارعي الدول النامية لم يحصلوا على التعليم الكافي الذي يسمح لهم بتغيير العمل، بل تشير تقارير الحكومة الهندية إلى أن أكثر من 80% من هؤلاء الذين يعانون الأمية في الهند مثلًا يعملون في الزراعة، بما يجعل خياراتهم المهنية أقل بالتأكيد.
ويشير البنك الدولي إلى المعضلة التي تواجه ضعف الأرباح في الزراعة، فمن ناحية يُعرض هذا المزارعين للظلم، ويجعل بعضهم يتوقفون –إذا استطاعوا- عن ممارسة المهنة، غير أن رفع أسعار المحاصيل الزراعية من شأنه تعريض آخرين من الفقراء للجوع وسوء التغذية، بما يجعل البحث عن توزيع أفضل للدخل وتطبيق الدول لمفاهيم التنمية المستدامة أمرًا حتميًا إذا ما أراد عالمنا المعاصر الإبقاء على منتجي غذائه في أماكنهم.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}