مع ترقب فرض العقوبات الأمريكية على إيران، والمقرر أن تبدأ في السادس من الشهر الحالي (أغسطس)، عانى الريال الإيراني من تراجع قياسي في قيمته، حيث وصل الدولار إلى 119 ألف ريال في الثلاثين من يوليو، مقابل 56 ألفا في شهر أبريل الماضي، في تراجع هو الأسرع خلال السنوات الأخيرة بما فرض تساؤلات متعددة حول الوضع الاقتصادي لطهران.
وألقى البنك المركزي الإيراني بالمسؤولية عن الانخفاض المتسارع في قيمة العملة إلى ما وصفه بـ"التآمر" من بعض القوى الدولية (في إشارة معتادة للولايات المتحدة) من خلال التلاعب في سعر الذهب عالميًا برفعه، والتدخل في أسواق صرف العملات الدولية بما يلحق الضرر بالعملة المحلية للبلاد.
للتراجع أسباب
لكن الواقع يؤكد تأثير قرار "ترامب" في مايو الماضي بوقف تنفيذ بلاده للصفقة التي أبرمها سلفه "أوباما" مع إيران كان الأشد أثرًا على العملة المحلية، لا سيما مع بدء تنفيذ الحظر الأمريكي على شراء كميات "معتبرة" (كبيرة) من الريال الإيراني منذ 6 أغسطس بما يجعل سعره يتراجع بشكل طبيعي انتظارًا للتأكد من تأثير تلك العقوبات على أرض الواقع.
وأدت هذه الضغوط المتصاعدة لقيام البرلمان الإيراني باستدعاء الرئيس حسن روحاني للمثول أمامه في الأول من أغسطس لمساءلته حول أسباب تراجع العملة المضطرد، وذلك على الرغم من إعلان "ترامب" استعداده للقاء المسؤولين الإيرانيين "دون شروط" قبلها بأيام، إلا أن ذلك لم ينعكس إيجابًا بشكل كبير على العملة، التي محت بعض خسائرها.
وتعيدنا القيمة المتراجعة للريال الإيراني إلى ما فرضته طهران على المواطنين باستخدام العملة التي ألغيت قبل 86 عاما، للتعبير عن الأسعار وهي الـ"تومان"، والأخير يساوي 10 ريالات، وبسبب التراجع الكبير في قيمة الريال أصبح التعبير عن الأسعار كلها يتم باستخدام الـ"تومان" فإذا كان سعر سلعة ما 80 ألف ريال، فالإيرانيون يقولون سعرها 8 آلاف "تومان" في انعكاس واضح لتراجع قيمة العملة وأنها لم تعد تمثل قيمة إلا في مضاعفاتها.
وفي عام 1932 أقرت الحكومة الإيرانية تغيير عملتها إلى الريال، بحيث استبدل المواطنون كل "تومان" بـ10 ريالات، ليبقى "اسم" "تومان" رائجًا في التعاملات مع غيابه في التعامل رسميًا، حتى أن البنك المركزي الإيراني دعا قبل عامين لاستبدال الريال بالـ"تومان" لأن الأخير يعتبر بمثابة "العملة الواقعية" للبلاد، غير أن البرلمان لم يقر هذه الخطوة إلى الآن.
العودة للمربع الأول
وعلى الرغم من عودة الاقتصاد الإيراني لتسجيل معدلات نمو موجبة خلال العامين الأخيرين، في حدود 4%، وفقًا لتقديرات البنك الدولي، إلا أن الأخير يشير إلى أن هذه المعدلات تعد استثنائية وترجع بالأساس إلى انفتاح أوروبا على الاقتصاد الإيراني في أعقاب الصفقة النووية، وأن معدلات النمو السلبية بين عامي 2009-2013 قد تكون مرشحة للعودة في أي وقت حال عودة إيران إلى المربع الأول حيث العلاقات السيئة مع واشنطن والمعاناة من العقوبات.
وبلغ الناتج المحلي الإجمالي لإيران440 مليار دولار خلال عام 2017، مستفيدًا من ارتفاع أسعار النفط عالميًا، بما جعله يتعافى نسبيًا، ويؤكد البنك الدولي في تقريره الأحدث حول طهران تأثير "الصادرات غير النفطية" أيضًا على النمو، بفعل الانفتاح النسبي للقوى العالمية عليها، ليبقى هذا التأثير أيضًا مرتبطًا بمدى استمرار هذا الانفتاح "والذي يبدو محل شك".
ونمت الصادرات غير النفطية بنسبة تتجاوز 17% خلال النصف الأول لعام 2017 بسبب السماح لطهران بزيادة صادراتها من المحاصيل الزراعية، ولا سيما الفواكه والمكسرات، ودخول أوروبا ضمن كبار المستقبلين للسلع الإيرانية بعد أن كانت مقصورة على الصين والهند وتركيا وتايوان بالأساس.
ولتبيان تأثير تراجع واشنطن عن الإتفاق النووي، يكفي الإشارة إلى أن النمو الاقتصادي لإيران في النصف الأول لعام 2017 فحسب بلغ 12.5%، ومع بدء الإشارة إلى التراجع الأمريكي عن الاتفاق تراجع مجمل النمو إلى 4% خلال العام الحالي كله بما يؤشر لمعدل نمو سالب خلال النصف الثاني من العام.
ويشير المركز الأمريكي للعلاقات الخارجية إلى "سوء" طريقة إدارة الاقتصاد الإيراني، حيث يرى "المتطرفون" هناك الانخراط في الاقتصاد العالمي والاعتماد الكبير على التجارة الدولية بمثابة "تقويض" لقدرة طهران على اتخاذ القرارت بحرية، وبمثابة منح لورقة ضغط لـ"القوى الدولية"، مما يناقض الرؤية التي تروجها طهران لنفسها بوصفها "اقتصاد مقاومة".
ولعل هذا ما يدفع الاقتصاد الإيراني للاعتماد على الصادرات النفطية أكثر من غيرها بوصفها "لا يمكن الاستغناء عنها"، لتبقى أكثر عرضة لتأثير العقوبات من ناحية السلع التي تستوردها لا التي تصدرها، لا سيما في ظل تصدر الماكينات والسلع الكهربائية لواردات إيران.
أسباب أخرى بخلاف العقوبات
ووفقًا لـ"بروكينجز" فهناك العديد من العقبات التي تحول دون انخراط أكبر لإيران في الاقتصاد الدولي، لعل أبرزها الارتفاع النسبي في تكلفة العمالة هناك، فبسبب القوانين المقيدة للأجور فإن أجر العامل غير الماهر في طهران 12 دولارا في اليوم، وهو ما يجعلها غير قادرة على منافسة الصين ودول جنوب شرق آسيا لا سيما في ظل انخفاض إنتاجية العامل الإيراني عن نظرائه في تلك الدول.
كما أن البنية التحتية تتذيل الترتيب بين الدول المحيطة بها وفقًا للبنك الدولي–باستثناء أفغانستان- بما يجعل المستثمرين يترددون كثيرًا في ضخ أموالهم هناك.
والاقتصاد الإيراني ما زال يعاني من فكرة اعتماده على التصنيع فحسب، في ظل قيمته المضافة المحدودة مقارنة باقتصاد الخدمات الذي أصبح السمة المميزة للعصر الحديث، ووفقا لـ"بروكينز" فإن الاتجاه للتصنيع مقابل الخدمات يخدم اتجاهات القائمين على الأمر في طهران لأنه يعكس اندماجًا أقل في الاقتصاد العالمي وسلعًا يمكن رؤيتها بالعين وبالتالي "تقديرها" بصورة أكبر من المواطنين.
وعلى الرغم من اعتماد طهران على الصين بوصفها الحليف الاقتصادي الأبرز لها، تبقى قدرة و"رغبة" بكين في إنقاذ الاقتصاد الإيراني محل شك، بما أشارت إليه "بلومبرج" في تقرير لها حول مستقبل الاقتصاد الإيراني "إذا كان الأوروبيون ينسحبون من السوق، والريال يتراجع، والاضطرابات الداخلية تتزايد، والعقوبات الأمريكية تعود، فماذا بوسع الصين أن تفعل؟".
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}