دائمًا ما يسعى المشتركون في أي "لعبة" إلى الوصول إلى عدد من القواعد التي تتيح وضع حدود واضحة لما هو مسموح وما هو ممنوع، ليعلم المشتركون في هذه اللعبة كيف يمارسونها وما يمكنهم فعله والمحظور الاقتراب منه.
تغيير قواعد اللعبة
ولا تقتصر فكرة القواعد على "الألعاب" فحسب لكنها تمتد أيضًا إلى عالم الواقع في السياسة والاقتصاد من خلال إبرام الدول، والشركات والأفراد، لاتفاقات تحدد التزامات محددة على كل طرف فضلًا عن القواعد التي تترسخ عبر الزمن باعتبارها "عرفًا" لا يتجاوزه المتعاملون تقليديًا ويحترمونه.
ومع تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمقاليد السلطة في بلاده بدا واضحًا من تصرفات متعددة لساكن البيت الأبيض أنه لا يلقي بالًا كثيرًا لـ"قواعد اللعبة" السياسية أو الاقتصادية وأنه لا يسعى لـ"الفوز باللعبة" قدر ما يسعى لـ"تغيير قواعدها".
وفي الشق الاقتصادي ظهر ذلك في القرارات التي اتخذها بفرض التعريفة الجمركية على واردات بلاده من الألمنيوم والصلب، ثم التهديدات (التي من غير المستبعد تنفيذها) بالانسحاب من الـ"نافتا" واتفاقية التجارة عبر الأطلنطي، وأخيرًا تهديد الصين بفرض جمارك على صادرات صينية لواشنطن تقدر قيمتها بـ200 مليار دولار.
ولعل السبب الرئيسي الذي يجعل "ترامب" قادرًا على محاولة تغيير قواعد اللعبة الاقتصادية هو أنه لم يحصل على دعم أي حزب سياسي أو جماعات اقتصادية محددة أثناء حملته الانتخابية وحتى في الوقت الحالي، وهو ما يجعله أكثر "مرونة" في التحرك لأنه كما وصفته "واشنطن بوست" ليس بحاجة لسداد فواتير الانتخابات لأي جماعة ضغط، تسعى أول ما تسعى لضمان استمرار النظام الاقتصادي على وضعه الحالي.
وعلى الرغم من أن هذا قد يبدو في ظاهره أمرًا إيجابيًا إلا أنه في الوقت نفسه يعكس عدم مراعاة "ترامب" لمصالح الائتلافات الصناعية الأمريكية الكبيرة بما سيؤثر عليها سلبًا وبالتالي على الاقتصاد الأمريكي بالتبعية.
فالرئيس الأمريكي ومنذ قدومه للسلطة تسبب في نشوب نزاعات اقتصادية وسياسية اختلفت حدتها مع كل من أمريكا الجنوبية والمكسيك وكندا وأوروبا والصين (كل على حدة)، بسبب سياساته الاقتصادية والسياسية "غير المألوفة".
الخطوة الأخطر
غير أن القيود الحمائية والتهديد بالانسحاب من الاتفاقات التي تضمن حرية التجارة يبقى أخطر ما يمكن أن يقدم عليه الرئيس الأمريكي في المرحلة المقبلة، فحال تطبيق تحذيراته فستبقى الولايات المتحدة بدون اتفاقية تجارية مع كندا والمكسيك وأمريكا الجنوبية، وكذلك الأمر مع أوروبا، وستدخل في حرب تجارية مع الصين ودول أخرى.
ولتخيل الوضع مستقبلًا حال تطبيق الرئيس الأمريكي لتهديداته الاقتصادية يجب اللجوء إلى "نظرية الألعاب" (game theory) لتبيان أثر التحركات الأمريكية على شكل الاقتصاد العالمي مستقبلا، فما يحدث تقليديًا وفقًا لنظام التجارة القائم هو "ربح الكل" (win-win) بمعنى أن كل طرف يسمح للطرف الآخر في الحصول على مكاسب مقابل حصوله هو نفسه على مكاسب، لتستفد كل دولة من ميزتها (مزاياها) النسبية، وعلى الرغم من عدم عدالة النظام الاقتصادي العالمي بالنسبة للمنتجين الزراعيين ومصدري المواد الأولية إلا أنه يضمن لهم الحصول على بعض المكاسب.
وفي حالة تغير الوضع فإنه يمكن أن ينقلب إلى ما يعرف بـ"اللعبة الصفرية" أو (zero –sum game) وهي التي يرى فيها كل طرف أن أي مكسب يحققه "الخصم" هو بمثابة خسارة له، أو بمعنى أن أي قيمة إيجابية للخصم ستعد قيمة سلبية لي.
ولا شك أن الوضع قد يتحول إلى هذه الصيغة بين الولايات المتحدة وأي من الأطراف سالفة الذكر (أو كلها) إذا بدأت العلاقات التجارية في التدهور ولنتناول الوضع مع الصين على سبيل المثال: فإذا فرضت الولايات المتحدة جمارك على السلع الصينية بالفعل فإنها ستقوم بذلك بتشجيع الشركات الأمريكية على استيراد سلع بديلة من دول جنوب شرق أسيا وأوروبا الشرقية، بما سيؤذي الاقتصاد الصيني وبالتالي سترد الصين بإجراءات "عقابية" للولايات المتحدة (المستورد الأول للسلع الصينية).
الصين.. خيارات متعددة
وتشير أغلب التحليلات إلى أن الصين لن ترد على الولايات المتحدة بفرض جمارك على السلع الأمريكية بشكل فعلي حيث إنها تستورد من الولايات المتحدة بما يزيد على الـ130 مليار دولار سنويًا، بينما تزيد صادراتها لواشنطن عن النصف تريليون دولار، لذا سيبدو ردًا غير متناسب.
ويمكن رصد الخيارات الصينية في النقاط الآتية:
- المقاطعة: نظرًا لأن الصين دولة ذات نظام مركزي سياسيًا فإنه بوسعها أن تروج وتفرض برامج مقاطعة للمنتجات الأمريكية وللسياحة الصينية إلى الولايات المتحدة بما سيفرض ضررًا كبيرًا على واشنطن.
- العملة: يمكن أن تسمح الصين لعملتها بالمزيد من الانخفاض في مواجهة الدولار، بما سيجعل الصادرات الصينية أكثر جاذبية من نظيرتها الصينية، وإن كان هذا سيلحق ضررًا بالصين لأن القيمة الحقيقية لصادراتها ستصبح أقل إلا أنه لا يقارن بالضرر الذي ستعانيه أمريكا.
- سندات الخزانة الأمريكية: كما هو معلوم فإن الصين أكبر حائز للسندات السيادية الأمريكية بـ1.18 تريليون دولار، ويمكنها أن تلحق ضررًا بالغًا بقيمتها ومصداقيتها إذا قررت البيع بكميات كبيرة، وعلى الرغم من أن ذلك غير مرجح حاليًا لأنه سيضر بالصين نفسها وباستثماراتها إلا أنه ممكن إذا تطورت الصراعات الاقتصادية بين الطرفين.
أما أوروبا فالوضع يختلف كثيرًا مع ارتفاع قيمة الصادرات الأمريكية إلى 332 مليار دولار إلى أوروبا عام 2017 (وفقًا لمكتب الإحصاءات الأمريكي)، بما يجعل أوروبا قادرة على الرد بالمثل في مواجهة الولايات المتحدة، وهو ما ينطبق على كندا والمكسيك والكثير من دول أمريكا الجنوبية.
لذا فإن الوضع إذا ما قرر ترامب أن ينفذ تهديداته المتعددة سيكون عبارة عن تحول جذري من فكرة "الربح المتبادل" إلى فكرة اللعبة الصفرية مع أكثر من طرف مما يعني اندلاع صراعات اقتصادية متعددة بلا ضابط في ظل انهيار "قواعد اللعبة" مما سيلحق الضرر بالجميع في ظل انهيار مفاجئ وغير محسوب لقواعد التجارة العالمية.
للحرب التجارية أطراف أخرى
ولا شك أن دولًا أخرى قد تندفع أيضًا إلى فرض قيود على التجارة، لأنه إذا كانت الولايات المتحدة نفسها، وهي من وضعت النظام الاقتصادي العالمي تخالفه فلا شك أن هذا سيدفع دولًا أخرى للحاق بها في نفس الطريق، وسيكون لهذا الأمر انعكاسات أبرزها:
- تراجع كبير في مستويات التجارة العالمية بما يعني بالتبعية انخفاض معدلات نمو الاقتصاد العالمي بشكل عام.
- معاناة كبيرة للعديد من الشركات العابرة للجنسيات في ظل توترات في عملها وصعوبة تحرك رؤوس الأموال والبضائع.
- تقلبات عنيفة للأسواق المالية مع توالي "الصدمات" والقرارات التي تشير لعلاقات اقتصادية أشد توترًا.
- انخفاض حاد في أسعار النفط والمواد الأولية بشكل عام في ظل تراجع معدلات النمو وانحسار التجارة الدولية.
وعلى الرغم من أن كل هذه التداعيات تبقى "محتملة" وليست محققة، إلا أنه ووفقًا لنظرية الألعاب في التحليل الاقتصادي فإنه عندما تبدأ أولى قطع "الدومينو" في الانهيار فإنه يكون لها تأثير لا يمكن توقعه في انهيار القطع المجاورة، أو كما يقال في عالم السياسة إنه يمكنك أن تطلق الطلقة الأولى في أي حرب لكنه يصعب عليك أن تحدد متى تضع الحرب أوزارها.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}