عندما تعرضت ألمانيا للهزيمة العسكرية إبان الحرب العالمية الثانية وبدا واضحًا لقادتها أن أسلوب مواجهة كافة دول العالم عسكريًا غير صالح للاستخدام في العصر الحديث، قررت الدولة أن يكون مكمن قوتها الرئيسي اقتصاديًا وليس عسكريًا، وبدأت العمل على ذلك تدريجيًا.
ومع مرور العقود أصبحت ألمانيا تمتلك الاقتصاد الرابع على مستوى العالم، بعد الولايات المتحدة والصين واليابان، بناتج إجمالي محلي يبلغ 4.15 تريليون دولار، غير أن الأمر في التجربة الألمانية يتعدى منطق الأرقام المجردة إلى طبيعة الاقتصاد الألماني وبنيته التي جعلته –وفقًا لتصنيف الكثيرين- الأكثر تميزًا في العالم.
اقتصاد متميز.. لماذا؟
وفقًا للمركز الألماني للتجارة والاستثمار فإن برلين تتمتع بعدد من المزايا الاستثنائية، فبها أفضل بنية تحتية في العالم، حتى إذا تمت مقارنتها بالولايات المتحدة واليابان، وكذلك فإن ألمانيا أكثر دول العالم استثمارًا في الأبحاث والتطوير، وتأتي في صدارة الدول الأوروبية في نظم التعليم الأكثر ملاءمة للسوق.
أما فيما يتعلق بتوزيع قطاعات الاقتصاد فعلى الرغم من 0.8% من الدخل القومي الألماني يأتي من القطاع الزراعي، و29.9% من الصناعي، و69.3% لقطاع الخدمات، وهو ما يبدو مقاربًا للاقتصاد الأمريكي وبقية الاقتصاديات المتقدمة في العالم، إلا أن فروقًا كبيرة تبقى بين الاقتصادين في التفاصيل.
ففي الاقتصاد الأمريكي تصل نسبة مساهمة الخدمات إلى 80% من الاقتصاد في مقابل 19% للقطاع الصناعي و1% للزراعة، ليبدو الاقتصاد الألماني أكثر "اعتدالًا" في توجهه للاقتصاد الحديث القائم على الخدمات حتى من دول أقل نموًا منها مثل فرنسا، بما يجعله أكثر استقرارًا لتنوعه.
بل وأن التنوع يمتد من التوازن بين الزراعة والصناعة والخدمات إلى داخل كل قطاع من قطاعات الاقتصاد، فعلى الرغم من أن إنتاج القطاع الزراعي لا يتعدى 1% فقط من الناتج القومي الإجمالي إلا أنه –ووفقا لـ "إنفيستبيديا"- يستطيع سد احتياجات 90% من السوق المحلي للمواد الغذائية بل ويتبق منه ما يفيض عن الحاجة المحلية ليتم تصديره.
كلمة السر.. التنوع
أما القطاع الصناعي، فيكفي ذكر أنه على الرغم من وجود الشركات الألمانية العملاقة مثل مرسيدس وبي إم دبليو وسيمنز وغيرها، إلا أن النمو الاقتصادي الألماني يقوم بالأساس على الشركات الصغيرة والمتوسطة التي توظف قرابة 70% من قوة العمل في برلين، وتولد أكثر من ثلثي الدخل القومي في ألمانيا.
وتتنوع قائمة الصناعات التي تزدهر في ألمانيا لتشمل صناعات صغيرة وأخرى كبيرة، غير أن أبرزها صناعة السيارات والمعدات الثقيلة والأجهزة الكهربائية وتوربينات توليد الكهرباء، غير أن أنشطة أخرى قد تبقى بعيدة عن مجال الرصد التقليدي لأوجه التفوق الألماني الصناعي.
وعلى سبيل المثال فإن الكثيرين قد يهملون حقيقة أن ألمانيا إحدى أكثر الدول تصديرًا للأسلحة في العالم، وأنها تلي في المرتبة الولايات المتحدة وروسيا، وتضاهي الصين وفرنسا تقريبًا، حتى أنه وفي تقدير شبكة "دويتشه فيله" الألمانية فإن 6% من مبيعات الأسلحة في العالم تأتي من برلين، وإن كثيرا منها أسلحة ثقيلة وليست للاستخدام الفردي.
ولا شك أن وجود قاعدة كبيرة من الشركات الصغيرة والمتوسطة فضلًا عن الشركات العملاقة، مع التنوع الكبير في الأنشطة التي تعمل عليها هذه الشركات يعطي الاقتصاد استقرارًا استثنائيًا، لا سيما إذا ما تمت مقارنته باقتصاديات دول تزدهر فيها شركات عملاقة يكون بوسعها عاجلًا أو آجلًا أن تفرض أجندة سياسية واقتصادية محددة على الدولة.
وعلى الرغم من أن ألمانيا من الاقتصاديات "الأكثر نموًا" في العالم، ويقصد بهذا المصطلح الدول التي تشير التقديرات إلى وصول غالبية القطاعات فيها إلى حالة التشبع بما يجعل عملية النمو الاقتصادي صعبة، إلا أن هذا لم يمنع تحقيق معدلات نمو تقترب من 2% خلال الأعوام الماضية مثلًا (وتحديدًا منذ عام 2005 وفقًا لـ"نيويورك تايمز").
الوضع مشرق.. ولكن؟
بل إن الحكومة الألمانية أصبحت الدولة الغربية الوحيدة التي تعلن عن موازنة بها فائض خلال عام 2017، مما مكنها من تقليص الدين الحكومي من 68% إلى 65% خلال عام واحد، وذلك على الرغم من الدعم الكبير الذي تقدمه ألمانيا لبعض دول الاتحاد الأوروبي الذي تعتبره برلين في كثير من الأحيان غطاء سياسيا واقتصاديا لها لذا تحرص على استقراره.
ولعل هذا الوضع الاستثنائي للاقتصاد الألماني هو ما دفع "توماس جيتزل" رئيس بنك "في.بي" للتصريح لوكالة رويترز للأنباء حول النمو الاقتصادي الألماني بأن "الوضع الآن مشرق للغاية، وما على أي حكومة ألمانية مقبلة أن تحرص عليه هو جذب المزيد من الاستثمارات للحفاظ على معدلات نمو جيدة فهذا ما من شأنه أن يبقي الوضع مزدهرًا".
ولعل الوضع الاستثنائي لألمانيا في الاتحاد الأوروبي هو ما دفع صحيفة "نيويورك تايمز" للتعليق بأنه إذا قررت برلين الذهاب شرقًا فإن الاتحاد الأوروبي كله يذهب كذلك وإذا قررت الذهاب غربًا فإنه يفعل، وترى"إنفستبيديا" أن السبب وراء ذلك أن القطار (الاتحاد الأوروبي) ليس بوسعه إلا أن يتبع القاطرة (ألمانيا)، ليتحول اقتصاد ألمانيا بالفعل إلى ما يشبه السلاح الذي يمنح برلين قوة للقيادة دون استخدام قوة عسكرية تقليدية.
وفي ظل اقتصاد متنوع يحظى بأعلى معدلات التنمية في الاقتصاديات "الأكثر نموًا" يبقى التحدي الحقيقي أمام ألمانيا في الفترة المقبلة في استخدام تلك الأدوات في مواجهة أية اختلالات اقتصادية قادمة، لا سيما مع زيادة المخاوف من تفجر حروب تجارية عالمية قد تضر كافة الدول بما فيها ألمانيا ذاتها.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}