في عام 1681، اجتمع وزير المالية الفرنسي "جان بابتيست كولبير" مع مجموعة من كبار رجال الأعمال الفرنسيين، على رأسهم "إم ليجاندر"، ووجه لهم السؤال التالي: أيها السادة، كيف يمكن للحكومة الفرنسية مساعدتكم؟ وأجاب الحاضرون قائلين بالفرنسية "laissez-faire" بمعنى "دعونا نعمل" أو "اتركوا الأمور تمضي كما هي".
قصة هذا الاجتماع، ذكرها لأول مرة وزير المالية الفرنسي "رينيه دي فوير" في مقال نشره عام 1751 بمجلة "économique" الفرنسية. وفي خمسينيات القرن الثامن عشر، طور الاقتصادي الفرنسي "فنسنت دي جورناي" المصطلح، مطلقًا عبارة "laissez-faire, laissez-passer" أو "دعه يعمل.. دعه يمر" وذلك أثناء دعوته لإزالة القيود التنظيمية المفروضة على التجارة والصناعة في فرنسا.
ببساطة، "دعه يعمل.. دعه يمر" هو مبدأ اقتصادي ينص على أن اقتصاديات السوق تعمل بكفاءة مثلى في غياب التنظيم الحكومي؛ لذلك يعارض متبنو هذا المبدأ كافة أشكال الرقابة الحكومية وأي نوع من التشريعات أو ضرائب الشركات، بل إن بعضهم يرى أن الضرائب تعتبر بمثابة عقوبة على الإنتاج.
فلسفة المبدأ
الفلسفة التي يستند إليها هذا المبدأ شرحها "آدم سميث" في كلاسيكيته الشهيرة "ثروة الأمم"، مشيرًا إلى أن قوى العرض والطلب تسمح لاقتصاد السوق بتنظيم نفسه، وأن مستويات الأسعار والأجور والعمال تعدل نفسها تلقائيًا عن طريق ما سماها بـ"اليد الخفية".
وبناء على ذلك، شدد "سميث" على أنه لا يوجد أي سبب يدفع الحكومات للتدخل في الاقتصاد، عبر فرض تعريفات جمركية أو حد أدنى للأجور، مؤكدًا على أنه باستثناء الضرائب التي اعتبرها ضرورية لضمان الرفاهية الاقتصادية، فإن مثل هذه القيود لا تؤدي إلا إلى عدم الكفاءة وإعاقة الإنتاج دون مبرر.
بحسب "سميث"، يعمل الاقتصاد وفقًا لثلاثة قوانين طبيعية. الأول، هو أن جميع الأشخاص يجب أن يتصرفوا وفقًا لمصلحتهم الذاتية. والثاني، هو أن كل شخص هو أفضل من يعرف مصلحته الذاتية. أما الثالث، فهو أن كل شخص يعمل وفقًا لمصلحته الذاتية، سيضيف تصرفه هذا إلى الرفاهية العامة للسكان.
شدد الاقتصادي الأسكتلندي على أهمية التجارة وتخصص العمل، وهاجم بشدة "الاتجارية" أو مذهب التجاريين، ومن وجهة نظره، يجب أن يقتصر دور الحكومة على أشياء مثل التعليم والحماية العسكرية وتشييد الطرق، وبناء نظام نقدي، والإشراف على النظام القانوني العام. أما بالنسبة لأي شيء آخر تقريبًا، فيمكننا الاعتماد على "نظام السوق".
في القرون التالية، خرج علينا آلاف المفكرين والكُتّاب من كافة فروع العلوم الاجتماعية بنظريات وأفكار تتمحور حول هذه الفكرة الرئيسية. واليوم، توجد هناك مدرستان فكريتان كبيرتان: أولئك الذين يؤمنون بضرورة سيطرة الدولة على واحد أو أكثر من جوانب النظام الاجتماعي، في مقابل أولئك الذين يعتقدون أن مثل هذه المحاولات ستؤدي إلى نتائج عكسية لقضايا الرخاء الاقتصادي والعدالة والعدالة الاجتماعية.
المحاولات الأولى للتطبيق.. نتائج عكسية
كان لفلسفة "عدم التدخل" تأثير كبير على السياسة الاقتصادية خلال الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر.
ففي أعقاب الانتشار الواسع للفقر الناجم عن استغلال أصحاب المصانع للعمال، عبر دفعهم إلى العمل في بيئات خطرة وغير صحية، أصبح من الواضح أن وقوف الحكومات موقف المتفرج يؤدي إلى ظهور مشاكل لها آثار مجتمعية، أبرزها الاستغلال وسوء معاملة الطبقات الكادحة.
في أعقاب الانهيار الاقتصادي عام 1929، بدأت الحكومات في تبني سياسات اقتصادية لا تهدف إلى السيطرة على الإنتاج أو الحد من الكفاءة، وإنما تعمل على حماية العمال والمستهلكين.
الانتقاد الرئيسي الموجه لما يسمى بـ"اقتصاد عدم التدخل" هو الغموض الأخلاقي الذي يكتنف هذا المبدأ، حيث لا يوجد في ظله أي نوع من الحماية للضعفاء في المجتمع، وفي حين أن أنصار عدم التدخل يشيرون إلى أن الأفراد سيحصلون على الفوائد الاجتماعية إذا تصرفوا وفقًا لمصالحهم الخاصة، يؤكد منتقدو هذا المبدأ على أن انعدام الأمن وغياب الحماية يؤدي فعلًا إلى الفقر والاختلالات الاقتصادية.
كان الاقتصادي البريطاني الشهير "جون ماينارد كينز" أحد أبرز منتقدي مبدأ عدم التدخل، وقال إن مسألة "حرية السوق" مقابل "التدخل الحكومي" تحتاج إلى إقرار كل حالة على حدة.
لم تمض المحاولات الأولى لاختبار مبدأ عدم التدخل على ما يرام. كتجربة للمبدأ، قام "تورجوت" المراقب العام للمالية الفرنسية في عهد الملك "لويس السادس عشر" بإلغاء جميع القيود المفروضة على صناعة الحبوب، وسمح للواردات والصادرات بالعمل بحرية دون أي قيود تنظيمية.
لم تظهر مشكلة في البداية، لكن عندما قل حجم المعروض من الحبوب على خلفية تراجع حجم المحصول بمواسم الحصاد، خرجت الأسعار عن نطاق السيطرة، واتجه التجار إلى اكتناز الإمدادات، أو بيع المحصول في الخارج بأسعار مرتفعة، ووسط كل هذا، جاع الآلاف من المواطنين الفرنسيين.
اندلعت أعمال الشغب بين المواطنين، واستمر الوضع على هذا الحال لعدة أشهر، قبل أن يتم استعادة النظام في منتصف عام 1775، عبر إعادة فرض الرقابة الحكومية على سوق الحبوب.
رغم هذه البداية المشؤومة، حكمت سياسات عدم التدخل التي طورها "آدم سميث" و"ديفيد ريكاردو" المشهد الاقتصادي خلال الثورة الصناعية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر.
تأرجح الأمريكان بين هذا وذاك
تاريخيًا، تعتبر الولايات المتحدة من أوائل الدول التي تبنت مبدأ عدم التدخل، ولكن التزامها بهذا المبدأ لم يكن بالصرامة الكافية، حيث إن الشركات الخاصة لجأت في مناسبات عدة للحكومة الأمريكية للحصول على المساعدة.
على سبيل المثال، حصلت شركات السكك الحديدية على أراض مجانية ودعم مادي من الحكومة في القرن التاسع عشر، في حين أن الصناعات التي كانت تواجه منافسة قوية من الخارج طالبت الحكومة بحمايتها عبر فرض قيود معينة على سياستها التجارية.
قطاع الزراعة الأمريكي هو الآخر، استفاد بشكل كبير من المساعدات الحكومية، كما سعت العديد من الصناعات الأخرى إلى الحصول على مساعدات تتراوح بين إعفاءات ضريبية وإعانات مالية مباشرة من الحكومة.
خلال إدارتي " ثيودور روزفلت" و"وودرو ويلسون" تحول الرأي العام الأمريكي لصالح دعم تشريعات مكافحة الاحتكار وعمل الأطفال وساعات العمل الطويلة وظروف العمل غير الآمنة، وكبح التجاوزات التي تقوم بها الشركات في بيئة العمل غير المقيدة.
باختصار، شهد التاريخ تأرجح البندول مرارا وتكرارا في قلعة الرأسمالية بين مبدأ عدم التدخل والمطالبات بالتنظيم الحكومي، وهو التباين الذي أوضحه الرئيس الأمريكي السابق "فرانكلين روزفلت" في خطابه بنادي الكومنولث في سان فرانسيسكو في عام 1932، والذي صرح خلاله قائلًا:
"إن نفس الرجل الذي يخبرك بأنه لا يرغب في تدخل الحكومة بالأعمال التجارية، هو أول من يهرع إلى واشنطن ويطلب من الحكومة فرض تعريفة جمركية على الواردات من المنتج الذي ينتجه.
وعندما تسوء الأمور، كما حدث قبل عامين (خلال الكساد العظيم) يأتي إلينا ويطلب قرضًا. إن هؤلاء يسعدهم التدخل الحكومي فقط حين يتماشى مع مصالحهم الخاصة، ولا يدركون أن وظيفة الحكومة، هي العمل من أجل حماية حق جميع مواطنيها في الحرية الشخصية والملكية الخاصة".
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}