يستقر في ذهن السواد الأعظم منذ زمن طويل فكرة معينة حول العلاقة بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة، وهي أن الدول الغنية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تقدم بسخاء ثرواتها إلى الدول الأكثر فقراً في جنوب العالم، لمساعدتها على القضاء على الفقر ودفعها إلى سلم التنمية.
أن تتحول البلدان الغنية من قوى استعمارية أغنت نفسها من خلال الاستيلاء على الموارد واستغلال العبيد في مستعمراتها، إلى دول تعطي هذه الأيام مساعدات سنوية إلى البلدان الفقيرة تزيد على 125 مليار دولار، هذا بالنسبة لكثيرين دليل قوي على حسن النية وإنسانية منقطعة النظير.
رغم انتشار هذه الفكرة بشكل واسع والترويج لها من قبل صناعة المعونات وحكومات الدول الغنية التي نجحت في جعلها وكأنها أمر مفروغ منه، إلا أن القصة ليست بسيطة كما تبدو.
الطبيعة المعكوسة للمساعدات
- في الرابع عشر من يناير/كانون الثاني 2017، نشرت "الجارديان" تفاصيل دراسة صادرة عن منظمة النزاهة العالمية التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها بالتعاون مع مركز البحوث التطبيقية في المدرسة النرويجية للاقتصاد، شملت مجموعة من البيانات التي تستحق الوقوف أمامها.
- في هذه الدراسة تم جمع وحساب كل الموارد المالية التي يتم نقلها بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة كل عام، وما يميز هذه الدراسة هو أنها لم تشمل فقط المساعدات والاستثمار الأجنبي والتدفقات التجارية (كما فعلت دراسات سابقة)، ولكنها شملت أيضاً التحويلات غير المالية والديون الملغاة وتحويلات العاملين وهروب رؤوس الأموال غير المسجلة. ببساطة تعتبر هذه الدراسة أشمل تقييم تم إجراؤه لعمليات نقل الموارد على الإطلاق.
- ما اكتشفته تلك الدراسة، هو أن تدفق الأموال من البلدان الغنية إلى البلدان الفقيرة يتضاءل بالمقارنة مع تحرك الأموال في الاتجاه الآخر.
- ففي مفارقة مثيرة للسخرية تتدفق الأموال من البلدان التي هي في أشد الحاجة إلى أي مصدر تمويلي إلى أخرى تجلس فوق أكوام من رؤوس الأموال. بعبارة أخرى، تذهب الأموال التي يمكن استخدامها في بناء الطرق والمدارس وشبكات الصرف الصحي إلى البلدان التي لديها كل ذلك بالفعل.
- في عام 2012 – العام الأخير من البيانات المسجلة – تلقت البلدان النامية ما مجموعه 1.3 تريليون دولار تشمل مساعدات واستثمارات ودخلا خارجيا. لكن في نفس العام تدفق حوالي 3.3 تريليون دولار خارج تلك البلدان. بمعنى أن البلدان النامية أرسلت تريليوني دولار إلى بقية العالم أكثر مما تلقته.
- منذ عام 1980 وحتى عام 2012، بلغ صافي التدفقات الخارجة من الدول النامية ما مجموعه 16.3 تريليون دولار، وهو رقم ضخم للغاية يثير في الأذهان مزيجاً من الدهشة والسخرية.
- ما يعنيه ذلك هو أن السرد التنموي المعتاد هو في الحقيقة معكوس، بمعنى أن المعونات تتدفق فعلياً في الاتجاه المعاكس، وأن البلدان الغنية لا تطور البلدان الفقيرة، بل إن الأخيرة هي من تسهم في تطوير الأولى.
مم تتكون هذه التدفقات الضخمة؟
- جزء غير قليل من تلك التدفقات هو عبارة عن مدفوعات الديون. فقد قامت البلدان النامية بدفع ما يزيد على 4.2 تريليون دولار كفوائد على ديونها فقط منذ عام 1980، عبر تحويلات نقدية مباشرة إلى مصارف كبرى في نيويورك ولندن.
- هناك عنصر آخر مهم في تلك التدفقات، وهو الدخل الذي يحققه المستثمرون الأجانب من استثماراتهم في البلدان النامية، والذي يعودون به إلى أوطانهم. هذا ما تفعله "بي بي" مع كامل أرباحها التي تحققها من استثماراتها النفطية في نيجيريا، ونفس الأمر تفعله "أنجلو أمريكان" في مناجم الذهب بجنوب أفريقيا.
- لكن الجزء الأكبر من التدفقات الخارجة له علاقة بهروب رؤوس الأموال غير المسجلة والتي عادة ما تكون أموالاً غير مشروعة. فوفقا للدراسة، فقدت البلدان النامية ما مجموعة 13.4 تريليون دولار من هروب رؤوس الأموال غير المسجلة منذ عام 1980.
- معظم رؤوس الأموال الهاربة من البلدان النامية تدور فعلياً داخل فلك نظام التجارة العالمي. فعادة ما تقوم الشركات – المحلية والأجنبية على حد سواء – بالتلاعب في بياناتها المالية وفواتيرها التجارية، قبل أن تقوم بتحويل الأموال الناتجة من هذه الممارسة إلى ملاذات آمنة وسرية.
- كما تقوم الشركات متعددة الجنسيات بسرقة المال من البلدان النامية، حيث تقوم بتحويل الأرباح بشكل غير قانوني بين شركاتها التابعة من خلال "فبركة" فواتير بين الطرفين.
- تقدر منظمة النزاهة العالمية حجم رؤوس الأموال المتدفقة بشكل غير مشروع إلى خارج البلدان النامية نحو نظيرتها الغنية بنحو 3 تريليونات دولار سنوياً، وهو ما يزيد على 24 ضعف حجم المساعدات التي تتلقاها البلدان النامية. بمعنى أنه في مقابل كل دولار واحد من المعونة التي تحصل عليها الدول الفقيرة تفقد مقابله 24 دولاراً كتدفقات خارجة.
قادرون على تصحيح الوضع.. ولكن
- هذه التدفقات الخارجة تجرد البلدان النامية من مصدر مهم للإيرادات، التي يمكنها من خلالها تمويل أغراضها التنموية. وتخلص الدراسة إلى أن كبر حجم صافي التدفقات الخارجة من البلدان النامية أدى إلى انخفاض معدلات النمو الاقتصادي لديها، وهو المسؤول المباشر عن انخفاض مستويات المعيشة في تلك البلدان.
- هروب رؤوس الأموال المشروعة لن يكون ممكناً من دون الملاذات الضريبية. وعندما يتعلق الأمر بهذه المناطق ليس من الصعب تحديد الجناة. هناك أكثر من 60 ملاذاً ضريبياً في العالم، والغالبية العظمى منها تقع تحت سيطرة عدد محدود من البلدان الغنية.
- هناك ملاذات ضريبية أوروبية مثل لوكسمبورج وبلجيكا وأخرى أمريكية مثل ديلاوير ومنهاتن، ولكن أكبر شبكة من الملاذات الضريبية في العالم تتمحور حول مدينة لندن التي تسيطر عليها الوكالات القضائية السرية في إقليم ما وراء البحار البريطاني.
- هذا يعني أن بعض البلدان الغنية التي تبرز نفسها على الساحة العالمية كمتبرع سخي للبلدان النامية، هي ذاتها التي تساعد أنشطة السرقة الجماعية التي تعصف بموارد تلك البلدان.
- عندما نأخذ كل ما سبق في الاعتبار تبدو سردية مساعدة الدول الغنية للدول الفقيرة سخيفة للغاية. ومن الواضح أن هذه المساعدات تستخدم كغطاء لحجب سوء توزيع الموارد في جميع أنحاء العالم.
- هذه المساعدات تجعل المانحين الحقيقيين يبدون وكأنهم ممنوحين، والأسوأ من ذلك هي أنها حالت دون فهم الأغلبية لكيفية إدارة النظام العالمي فعلياً.
- أخيراً البلدان النامية لا تحتاج إلى الصدقة، بل تحتاج العدالة، وليس من الصعب تحقيق العدالة، ويمكن للبلدان الغنية شطب الديون الزائدة للبلدان الفقيرة، وهو ما سيتيح الفرصة أمامها لإنفاق أموالها على التنمية بدلاً من مدفوعات الفائدة على القروض القديمة.
- الجميع يعرف حل تلك المشكة. غير أن أي بلد سيحاول القيام بذلك سيجد نفسه في مواجهة "شياطين" المصارف الكبرى والشركات القوية التي تستفيد بشكل كبير من الوضع الحالي. والسؤال الآن: من يمتلك الشجاعة لفعل ذلك؟
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}