مع بدء الحرب الأوكرانية الروسية في وقت سابق أوائل العام الجاري، كانت أسعار المعدن النفيس تحوم قرب أعلى مستوياتها على الإطلاق، إذ لامست الأسعار مستوى 2070 دولارا للأوقية مقتربة من القمة التاريخية المحققة في أغسطس 2022.
اليوم ومع اقتراب العام من نهايته، يحاول المعدن النفيس الصمود في وجه الدولار القوي بفعل السياسة النقدية المتشددة للفيدرالي الأمريكي والذي رفع أسعار الفائدة بنحو 425 نقطة أساس في 7 اجتماعات من أصل 8 اجتماعات شهدها العام في أسرع دورة زمنية لتشديد السياسة للبنك منذ نشأته رغبة منه في كبح جماح التضخم.
ويقول محللون لـ "أرقام" إن تذبذب أسعار المعدن يعكس بالأساس بحث المستثمرين عن تحقيق عوائد أكبر في بيئة مرتفعة لأسعار الفائدة ولكن صمود المعدن في وجه الدولار القوي يؤشر على أنه يظل ملاذا آمنا يلجأ إليه الجميع في أوقات الأزمات.
الدولار القوي
تسببت دورة التشديد التي اتبعها الفيدرالي الأمريكي في ارتفاع مطرد للعملة الخضراء أمام سلة العملات الرئيسية، إذ ارتفع مؤشر الدولار الذي يقيس أداء العملة الأمريكية أمام سلة من العملات الرئيسية بنحو 8٪ حتى الآن هذا العام في وقت لامس فيه المؤشر أيضا أعلى مستوياته منذ 2002 في وقت سابق من سبتمبر أيلول الماضي.
ويقوض ارتفاع الدولار من جاذبية الأصول المقومة به مع ارتفاع تكلفة حيازته في وقت ارتبطت أسعار الذهب بحركة عكسية مع اتجاه الدولار فانخفاض الدولار يدعم أسعار المعدن الأصفر والعكس بالعكس.
ويقول محلل أسواق الذهب، لدى مجلس الذهب العالمي، "كوميش كومار" لـ "أرقام" إن قدرة الذهب على التماسك خلال العام الجاري في وجه الدولار القوي تظل استثنائية بالنظر إلى الارتباط التاريخي السلبي بين الدولار والمعدن الأصفر اللذين يظلان الملاذ الآمن المفضل من وجهة نظر المستثمرين.
ومنذ مطلع العام الجاري تراجعت أسعار الذهب بنحو 1٪ ولكن الأسعار التي بلغت أقل مستوياتها خلال العام الجاري ارتفعت منذ جلسة 3 نوفمبر الماضي بنحو 13٪ مع مؤشرات على تراجع التضخم الأمريكي ما قد يجعل الفيدرالي أقل تشددا في سياسته العام المقبل.
ويتابع كومار: "لاحظنا التماسك الذي أظهرته الأسعار خلال الأسابيع القليلة الماضية ونجاح المعدن الأصفر في تقليص خسائره رغم استمرار قوة الدولار الذي يضغط بشدة على جاذبية أي أصل مقوم به مع ارتفاع تكلفة الحيازة".
السندات.. سابقة تاريخية
وللسندات العشرية الأمريكية قصة أخرى مع الذهب، إذ يتداول المعدن الآن مع علاوات سعرية مرتفعة بالنظر إلى معامل الارتباط التاريخي العكسي للذهب مع تلك السندات.
وتقيس السندات العشرية الأمريكية الفرق بين سعر الفائدة الاسمية ومعدلات التضخم ومن شأن تقديم عوائد بالنطاق الإيجابي أن يضغط على الذهب والعكس بالعكس.
ومنذ أن رفع الفيدرالي أسعار الفائدة في مارس الماضي بدأت العوائد تتحرك بعيدا عن النطاق السالب، ما من شأنه أن يدفع المستثمرين إلى بناء مراكز أكثر في أصل استثماري آمن مثل السندات العشرية الأمريكية.
ويقول محلل أسواق السلع لدى "ميريل لينش"؛ لاوسن ويندر لـ "أرقام" إن تأثر الذهب بارتفاع عوائد السندات الأمريكية هذا العام هو الأقل ضررا في سنوات طويلة بالنظر إلى ارتفاع العوائد الحقيقية التي تقدمها السندات الأمريكية في ظل موقف السياسة النقدية المتشدد.
وتشير بيانات "ريفنتيف" إلى الارتباط العكسي السلبي بين سعر السندات العشرية والذهب، إذ جرى تداول المعدن النفيس باستمرار دون مستويات 1450 دولارا للأوقية في كل عام كانت فيه العوائد بالنطاق الموجب بعد استثناء معدل التضخم.
وتقدم تلك السندات بالوقت الحالي عوائد حقيقية تبلغ نحو 1.5٪ ما يجعل الذهب على المسار نحو فك الارتباط السلبي للمرة الأولى في 2022 منذ نحو 25 عاما.
ويتابع لاوسن: "متوسط العوائد التي يقدمها الدولار لم تتضرر بشدة هذا العام من قوة السندات العشرية فتاريخيا حينما تقدم السندات عوائد إيجابية حول المستويات الحالية كانت عوائد الذهب تسجل نطاقات سالبة لا تقل عن نصف النقطة المئوية".
الملاذ المفضل للأفراد
ورغم التقلبات الحادة التي شهدتها الأسواق العالمية للمعدن النفيس، فإن مبيعات التجزئة ومشتريات الأفراد العاديين لعبت دورا لا يستهان به في فورة الأسعار التي جاءت في آخر شهور العام.
ويقدر مجلس الذهب العالمي ارتفاع مبيعات التجزئة في الأسواق الكبرى حول العالم بنحو 12٪ خلال العام المنصرم مع توجه الأفراد نحو شراء الذهب في مواجهة التضخم وتآكل القوة الشرائية للنقود.
وقال المجلس في تقرير توقعاته لعام 2023، والذي اطلعت "أرقام" على نسخة منه، إن المستثمرين الأفراد في الذهب يخشون من ارتفاع معدلات التضخم، فيما يبحث المستثمر المؤسسي بالمعدن النفيس عن العوائد الحقيقية والتي مثلت رياحا معاكسة له بالعام 2022.
ونوه التقرير إلى تأثير السياسة النقدية للبنوك المركزية الكبرى حول العالم على المعدن الأصفر، وقال إن العام المقبل سيشهد بداية دورة التيسير للفيدرالي بالنصف الثاني من العام، ما قد ينعكس إيجابا على أسعار الذهب في انتظار موجة تيسير نقدي عالمية بحلول 2024.
مقارنة غير عادلة
ومع موجة الهبوط العنيفة التي منيت بها أسواق العملات المشفرة، اختفى الحديث عن منافسة البيتكوين للذهب كملاذ آمن يلجأ له المستثمرون في أوقات الأزمات.
وقبل شهور من الآن، كان الحديث الدائر بالأسواق حول تفوق البيتكوين على الذهب باعتباره أمرا مسلما، ولكن موجة الهبوط العنيفة الأخيرة والتي اتسمت في غالبيتها بالتقلبات الشديدة وانهيار "إف.تي.إكس" جعل من الضروري تسليط الضوء على أوجه الاختلاف بين الذهب والبيتكوين.
ويقول بنك الاستثمار العالمي "سوستيه جنرال" في مذكرة بحثية حديثة إن "تحركات الأسعار غير المنتظمة للبيتكوين تجعل من وجودها في أي محفظة استثمارية غير مناسب بالوقت الحالي"، مفضلا الاستثمار في الذهب ويحدد حجمه في المحفظة بنحو 5٪ من أجل ضمان سلامة الاستثمار.
وتابع البنك: "المقارنة غير عادلة بين الذهب والبيتكوين فيما يتعلق باعتبار من يصلح كملاذ آمن فالتقلبات السعرية العنيفة التي تحدث للعملة المشفرة لن تجدها في الذهب والذي تتحرك أسعاره وفقا لمعايير اقتصادية واضحة".
وتشير بيانات الهيئة الأمريكية المختصة بتنظيم المتاجرة في عقود السلع الآجلة "CFTC" إلى ارتفاع حيازات المستثمرين من العقود الآجلة للذهب إلى نحو 60 ألف عقد بالأسبوع المنتهي في 13 ديسمبر الماضي وهو أعلى مستوى مسجل منذ يونيو 2022.
وتقول مذكرة بحثية صادرة عن "كابيتال وان" إن الذهب يظل الملاذ الآمن الأفضل للمستثمرين وإن أي سيناريو لوجود الركود التضخمي في مشهد الاقتصاد العالمي في 2023 من شأنه أن يدفع الأسعار بقوة لمستويات تاريخية مع أقوى تدفق للاستثمارات بالمعدن منذ حقبة السبعينيات من القرن الماضي.
المصدر: أرقام- مجلس الذهب العالمي - بيانات ريفنتيف
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}