فاز ثلاثة من الخبراء الاقتصاديين المخضرمين بينهم رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي الأمريكي) الأسبق "بن برنانكي" بجائزة نوبل في الاقتصاد هذا العام، وذلك لدورهم في وضع أساس للكيفية التي تمكنت بها القوى العالمية من التعامل مع الأزمات العالمية مثل جائحة كوفيد-19 والركود الكبير في 2008.
وكان الاقتصاديون الأمريكيون نشروا أبحاثا في 1983 و1984، قالت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم إنها ساهمت في تشكيل ركائز فهمنا الحديث لأسباب الحاجة إلى البنوك والدور الذي تضطلع به في نشاط الاقتصاد ونقاط الضعف الرئيسية لديها وكيف يمكن لانهيارها أن يشكل شرارة لانهيار النظام المالي.
وأضافت أن هذه الاكتشافات حسّنت الكيفية التي يتعامل بها المجتمع مع الأزمة المالية وقالت إن الأكاديميين الثلاثة أظهروا لصناع السياسات أهمية منع البنوك من الانهيار.
الكساد الكبير
وتدور مؤلفات "برنانكي" إلى جانب كل من "دوجلاس دايموند" و"فيليب ديبفيغ" الفائزين معه بالجائزة حول الكيفية التي يمكن أن يساهم بها وضع القواعد التنظيمية للقطاع المصرفي ودعم البنوك المتعثرة بالمال العام في تفادي أزمة اقتصادية أعمق مثل الكساد الكبير في الثلاثينيات.
وقالت الأكاديمية السويدية إن الإجراءات التي اتخذتها البنوك المركزية والهيئات التنظيمية المالية في أنحاء العالم في مواجهة أزمتين رئيسيتين أخيرتين، الركود الكبير والانهيار الاقتصادي الناجم عن جائحة فيروس كورونا، كانت مدفوعة إلى حد كبير بأبحاث الفائزين.
وحصل "برنانكي" الذي قاد البنك المركزي الأمريكي خلال الأزمة المالية العالمية في 2008 على الجائزة لأبحاثه حول الكساد الكبير، وأظهرت أعماله أن تعرض البنوك لسحب كبير للودائع بسبب شكوك المودعين في تعثرها كان سببا حاسما في اشتداد حدة الأزمة وترسيخها.
وقدمت الحكومات في أنحاء العالم مساعدات مالية للبنوك في عامي 2008 و2009 مما أثار موجة انتقادات إذ عانى المستهلكون العاديون من فقدانهم لمنازلهم حتى مع دعم البنوك ماليا وهي المتهم الرئيسي في الأزمة.
لكن المجتمع ككل استفاد وتشير الأبحاث التي قدمها الفائزون إلى أن عمليات الدعم المالي حتى إذا كان البعض ينظر إليها بنظرة شك من الناحية الأخلاقية فإنها منعت وقوع المزيد من المتاعب.
وقال "دايموند" الأستاذ في جامعة شيكاغو "على الرغم من أن عمليات الإنقاذ المالي هذه انطوت على مشكلات، إلا أنها يمكن أن تكون مفيدة للمجتمع". مجادلا بأن منع انهيار بنك الاستثمار "ليمان براذرز" كان من شأنه أن يجعل الأزمة أقل حدة. وأضاف "ربما كان من الأفضل ألا ينهار بنك ليمان براذرز بشكل غير متوقع... إذا كانوا عثروا على وسيلة أعتقد أن العالم كان سيواجه أزمة أقل حدة".
وقال "جيرنوت دوبلهوفر" الأستاذ في قسم الاقتصاد بكلية الاقتصاد النرويجية (إن أتش أتش) إن الأبحاث توضح كيف يمكن للنظام المالي أن يضخم الصدمات وكيف أنه من المهم العمل على تحقيق الاستقرار في الاقتصاد مع ضمان استقرار النظام المالي.
وقال "جون هاسلر" أستاذ الاقتصاد وعضو لجنة جائزة نوبل للاقتصاد إن آراء "برنانكي" أصبحت الحكمة التقليدية، مضيفا أن الناس كانوا يرون البنوك تنهار لكنهم كانوا يعتقدون أن ذلك أحد تداعيات الأزمة وليس أحد أسبابها، وما فعله "برنانكي" هو إظهار أن البنوك قامت بدور رئيسي في تحويل فترات الركود الصغيرة نسبيا إلى كساد في الثلاثينيات، وكانت تلك أسوأ أزمة اقتصادية يشهدها العالم منذ ذلك الحين". وأضاف أنه يمكن بسهولة أن يتحول سحب الكثير من المودعين لودائعهم من البنوك بفعل الذعر إلى أزمة ذاتية مما يؤدي لانهيار البنك وتعريض القطاع المالي بأكمله للخطر.
ويقول "ديبفيغ" ودايموند إن البنوك تساهم في حل نزاع متأصل بين من يملكون أموالا فائضة في أي وقت وبين أولئك الذين يحتاجون إلى المزيد من السيولة أكثر مما لديهم. ويرغب المدخرين في الوصول الفوري إلى أموالهم في حالة وجود مصاريف غير متوقعة، بينما يريد المقترضون ضمان أنهم لن يجبروا على سداد قروضهم في موعد مبكر عن أجل الاستحقاق. وتقوم البنوك بدور الوسيط إذ تقوم بجمع المدخرات من عدة أفراد، مما يسمح لها بتلبية طلبات المدخرين لسهولة الوصول إلى ودائعهم مع تقديم قروض طويلة الأجل للشركات وغيرها.
في الوقت ذاته أوضحا أن الوظيفة الأساسية للبنوك تجعلها عرضة للشائعات عن الانهيار المحتمل. وإذا نما قلق المدخرين من أن البنك على وشك الانهيار، فإن عمليات السحب قد تتضخم لتصبح عملية مزعزعة للاستقرار خاصة مع إقبال الكثير من المودعين على سحب أموالهم من البنوك. ويمكن تجنب هذه النتيجة كما هو الحال في الولايات المتحدة من خلال جعل الحكومة تقدم تأمينا على الودائع يحمي المدخرين من هذه الخسائر ومن خلال جعل البنك المركزي يعمل كمقرض الملاذ الأخير.
وقال "دايموند" و"ديبفيغ" إن البنوك التي تتلقى ودائع قصيرة الأجل وتقرض هذه السيولة لأجل طويل هي الوسيلة الأكثر فعالية لعمل القطاع المالي. لكن مثل هذا الترتيب قد يجعل البنوك عرضة لخطر قيام المودعين بسحب الأموال بشكل كبير لدى شعورهم بالخطر، ويمكن تقليص المخاطر في هذه الحالة من خلال عمليات المراقبة حين تعمل البنوك كوسيط بين المدخر والمقترض.
وقالت الأكاديمية إن هذا يوزع المخاطر ويضمن الكفاءة لأن البنوك مجهزة بشكل أكبر لتقييم الجدارة الائتمانية ومراقبة استخدام الأموال.
وحول الأوضاع الحالية، قال "دايموند" إن الارتفاع السريع لأسعار الفائدة حول العالم يمكن أن يتسبب في عدم استقرار السوق مشيرا إلى الاضطرابات الأخيرة التي شهدتها المملكة المتحدة. لكنه أشار إلى أنه يعتقد أن النظام أكثر متانة مما كان عليه بسبب الدروس الصعبة المستقاة من انهيار عام 2008.
وقال دايموند إن "الذكريات الأخيرة لتلك الأزمة والتحسينات في السياسات التنظيمية حول العالم جعلت النظام أقل عرضة للخطر بكثير".
برنانكي
لعب "برنانكي" الذي تولى مسؤولية قيادة البنك المركزي الأمريكي في الفترة من 2006 إلى 2014 دورا رئيسيا في إدارة تداعيات الأزمة المالية العالمية.
وحين تولى منصبه، كان البنك المركزي يقوم بدور رائد من خلال برنامجه للتيسير الكمي، ويشتري أصولا للمساهمة في تحفيز النمو الاقتصادي.
كما قام البنك خلال ولاية "برنانكي" بتحسين التواصل مع الجمهور العام حول تفكير البنك المركزي ونواياه المستقبلية. وأصبحت هذه المناهج جزءا قياسيا من نهج البنك المركزي لتحقيق الاستقرار في السوق ودعم الاقتصاد.
ومع ذلك فإن فشل البنك المركزي ووزارة الخزانة الأمريكية في إنقاذ بنك "ليمان براذرز" من الانهيار موضع جدل، ويُنظر إلى الانهيار الداخلي للبنك الاستثماري في سبتمبر 2008 على أنه نقطة تحول كبير في الأزمة وكان بمثابة الشرارة الرئيسية لأكبر اضطراب مالي في العالم منذ الثلاثينيات.
ويقوم "برنانكي" حاليا بالتدريس في معهد بروكينغز وهو مؤسسة بحثية رفيعة المستوى. وقال "برنانكي" في ذلك الحين إنه لا توجد وسيلة قانونية لإنقاذ بنك ليمان، لذا فإن الخيار التالي الوحيد كان تركه ينهار واستخدام الموارد المالية للحكومة لمنع حدوث إخفاقات واسعة النطاق في النظام. جزء من هذه الاستجابة تمثل في أسعار الفائدة شديدة الانخفاض وقيام البنك المركزي بشراء أصول ضخمة.
وقال "دايموند" إن هناك الكثير من التساؤلات حول "الطرق القانونية التي كان يمكن بها للجهات التنظيمية الأمريكية من خلالها حل مشكلة ليمان براذرز، والبعض يقول إنه كان من المستحيل عليهم القيام بذلك".
انهيار البنوك سبب الأزمة
والجائزة التي حصل عليها "برنانكي" كانت عن مؤلفات له صادرة في عام 1983 شرح فيها نظرته بأن انهيار البنوك عامل رئيسي في تحول الركود الاقتصادي إلى أشد موجات الكساد حدة في القرن العشرين.
وأوضح "برنانكي" أن انهيار البنوك، بدلا من أن يكون نتيجة للتراجع الاقتصادي، كان مسؤولا عن أن يصبح التراجع أكثر عمقا وأطول زمنا. وحين تنهار البنوك، تختفي معلومات مهمة بشأن المقترضين، مما يجعل من الصعب على المؤسسات الجديدة أن توجه المدخرات إلى الاستثمارات المنتجة.
ويقول "برنانكي" إنه "من عام 2006 إلى 2014، كنت منخرطا في أزمة مالية عالمية حيث تسببت المشكلات في القطاع المالي في أزمات هائلة في الاقتصاد الحقيقي، سواء في الولايات المتحدة أو في أنحاء العالم. التفكير في هذه القضايا جعلني عازما على القيام بكل ما في وسعي مع زملائي لمحاولة منع النظام المالي من الانهيار، لأنني كنت أؤمن بشدة أنه إذا حدث ذلك فسيؤدي إلى انهيار بقية الاقتصاد".
و"برنانكي" أكاديمي في الأصل وكان قضى معظم حياته المهنية في دراسة الكساد الكبير والبنوك المركزية في جامعة برينستون وكلية ستانفورد للدراسات العليا في إدارة الأعمال، وقد ارتقى إلى طليعة صانعي السياسات في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تدخل فيه في مرحلة تبدو شبيهة بالأحداث التي كان "برنانكي" يدرسها من كتب التاريخ.
ينسب المؤرخون الآن الفضل إلى "برنانكي" في تجنب كارثة اقتصادية من خلال ابتكار سياسات نقدية جديدة صارمة، خلال وبعد الأزمة المالية التي بدأت في 2017 واستمرت عامين، تمثلت في معدلات فائدة شديدة التدني قرب الصفر وقروض للبنوك وبرامج لشراء السندات أثارت الجدل وراكمت أصولا تصل قيمتها إلى أربعة تريليون دولار وهو رقم قياسي في ذلك الوقت من أجل تحفيز النمو.
وكان شعار "برنانكي" أثناء الأزمة أننا سنفعل كل ما يتطلبه الأمر لمنع الانهيار الاقتصادي وقد قام بذلك بالفعل. إذ بدأ التعافي بعد عامين تقريبا من انتشار الذعر في الأسواق وشهد الاقتصاد الأمريكي فيما بعد أطول نمو في تاريخه.
لكن التعافي البطيء وعمليات إنقاذ المصارف من خلال إغداق الأموال عليها لم يحظ بشعبية مما جعل "برنانكي" عرضة للانتقاد وعلى الأخص من جانب الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه.
بالإضافة إلى عمله على الأزمات المالية، دعا "برنانكي" البنوك المركزية منذ فترة طويلة إلى تبني هدف رسمي للتضخم. ويرى "برنانكي" أن الأهداف يمكن أن تشكل ضمانة ضد الانكماش. نما هذا الاهتمام في أعقاب الأزمة المالية العالمية عندما ظل التضخم عالقا عند أقل من 2% مما أبقى أسعار الفائدة بالقرب من الصفر وحرم البنك المركزي من قدرته على تعزيز الاقتصاد.
وردا على ذلك، صقل "برنانكي" مصطلح "التيسير الكمي"، أو شراء السندات على نطاق واسع. وفي 2012، أقنع الاحتياطي الفيدرالي بتبني هدف رسمي للتضخم عند 2%. وفي 2017، اقترح "برنانكي" هدفا مؤقتا "لمستوى السعر" والذي بموجبه يهدف المركزي، بعد فترة يقل فيها التضخم عن 2%، يهدف لتضخم فوق 2% لفترة من الزمن.
المصادر: أرقام- رويترز- واشنطن بوست- وول ستريت جورنال- سي إن إن بيزنس
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}