يستعين الرسام بألوان وأشكال مختلفة ومتنوعة كي يقدم صورة لما يراه أمامه في الطبيعة، فيستخدم اللون الأزرق ليرسم لسماء والأخضر للزرع وهكذا، ولو افتقد إحدى أدواته لجاءت اللوحة غير كاملة أو ربما مشوهة ولفشل الرسام في تحقيق غايته برسم صورة "واقعية" لما تراه عيناه.
ويتشابه المستثمر في أسواق الأسهم في ذلك مع الرسام، فهو يرسم صورة متكاملة لاحتمالات ارتفاع أو انخفاض سهم بعينه، من خلال تحليل الحالة العامة للاقتصاد من جهة، والقطاع الذي ينشط فيه السهم من جهة أخرى، فضلا عن "بيانات" الشركة نفسها من أرباح ومستويات ديون واحتمالات تحركها في المستقبل والعديد من العوامل الأخرى.
توقعات شركات غير واقعية
غير أن أحد أهم العوامل التي يبني عليها المستثمر قراره هي البيانات والتوقعات والقوائم التي تصدرها الشركات نفسها، وتتوقع فيها مستويات معينة من النمو في الأرباح أو التوسع في رأس المال أو احتمالات زيادة الإنتاج أو تقليصه وما إلى ذلك من العناصر التي تعين المستثمر على تحديد موقفه من سهم الشركة.
وبشكل اعتيادي تهتم الأسواق بتقارير الأرباح بشكل أساسي، فعندما تتوقع شركة تحقيق أرباح 10 ملايين ريال في 3 أشهر ثم تحقق 10 ملايين بالفعل فإن سعر السهم يميل إلى الاستقرار أو الهبوط المحدود لأن السهم ببساطة حقق ما هو منتظر.
أما إذا حققت الشركة نفسها أرباحًا بـ13 مليون ريال فمن شأن ذلك أن يزيد من ثمن سهمها بسبب إقبال الناس على شرائه في ظل توقع استمرار ارتفاع الأرباح في المستقبل، وإذا حققت أرباحًا بـ7 ملايين ريال (أو خسائر) فسينخفض سعر السهم.
وفي الحالتين الأخيرتين ستواجه الشركة بانتقادات في السوق بفعل إخفاقها في التوقع الصحيح للأرباح، فحتى إذا حققت أرباحًا أكبر من المتوقعة فسيشعر بعض هؤلاء الذين باعوا السهم في مستويات سعرية أدنى بالغبن لأنهم كانوا يحتفظون بالسهم أو يبيعونه في مستوى سعري أعلى إذا علموا بمستوى الأرباح المرتفع.
التوقعات ليس للأرباح فقط
مع توسع الأسواق وتغير طبيعتها وسيطرة الاقتصاد الحديث المبني على الخدمات والأصول غير المرئية أصبحت قوائم أخرى أكثر أهمية للمستثمرين، فبالنسبة لشركة مثل "أوبر" لا تعد الأرباح هي المؤشر الرئيسي الذي تترقبه الأسواق وبناء على ذلك يتقرر سعر السهم.
فللشركة معدل ربحية بالنسبة لسعر السهم عالٍ للغاية (وأحيانًا سالب في بعض أرباع السنوات) بما يعكس أن الهدف ليس جني الأرباح المباشرة ولكن الاستثمار فيما يعرف بتوسع القاعدة العامة وزيادة الحصة السوقية مما من شأنه زيادة قيمة الشركة نفسها وليس الأرباح لاحقًا، بما يبرر ارتفاع سعر السهم حاليًا.
فأرباح "أوبر" كانت 0.7 مليار دولار عام 2014 ووصلت إلى 8.5 مليار دولار عام 2019 قبل أن تتراجع إلى 0.4 مليار دولار في 2021، وعلى الرغم من أن هذه البيانات لها تأثير بالطبع على سعر الأسهم إلا أن عدد المستخدمين له التأثير الأكبر.
ولذلك فإن عام 2021 الذي شهد زيادة عدد مستخدمي التطبيق الشهير إلى 118 مليونًا كان ممتلئًا بالقمم القياسية فوق مستوى 60 دولارًا للسهم، وذلك لأن التطبيق في هذا العام استعاد قدرته على اجتذاب العملاء الذين فقد الكثير منهم في عام 2020 الذي تراجع فيه عدد المستخدمين إلى 93 مليونًا من 111 مليونًا في 2019.
ولهذا السبب أيضًا اتخذ سعر السهم اتجاهًا هابطًا، حتى تراجع عن مستوى 25 دولارًا خلال هذا الشهر، مع تراجع عدد المستخدمين مرة أخرى إلى 93 مليونَا في الربع الأول من هذا العام، بما يعكس أن البيانات التي يترقبها السوق هنا ليست الأرباح ولكن عدد المستخدمين فهي العنصر الذي سيحسم قدرة التطبيق بالإيفاء بالتطلعات أم لا، بوصف "أوبر" استثمار للمستقبل".
كما قد تكون بيانات أو توقعات شركة أخرى منافسة عامل قلق أو تهديدًا، مثلما هو الأمر في حالة "أوبر"، حيث شركة "دي.دي" الصينية التي تحقق نموًا مضطردًا (وفقًا لبياناتها فإن عدد مستخدميها خارج الصين تخطى 15 مليونًا مع أكثر من 50 مليون مستخدم محلي)، ولا شك أن بيانات المنافسة الصاعدة من شأنها التأثير على سعر السهم بالسلب.
"ميتا" و"نتفليكس"
وخلال الفترة الماضية شهدت السوق الأمريكية حالة من عدم الاستقرار النسبي مثلًا وسط الحديث عن سيطرة "الدببة" على السوق أي بمعنى اتجاهها للانخفاض، وكان أحد أهم اسباب التراجع هو اختلاف "ما هو حادث عما هو متوقع".
ولذلك شهد السوق عددًا من التلقبات ولكن أكبر تراجعين للسوق كانا بسبب بيانات مخيبة للتوقعات لشركتين الأولى هي "ميتا" (فيسبوك) والثانية هي "نتفليكس"، وفي كلتا الحالتين أتى التراجع بسبب اختلاف إعلانات الشركتين أو بياناتهما عما هو متوقع من الأسواق مما أحدث "صدمة" هبطت بأسهم قطاع التكنولوجيا بالكامل خلال شهر فبراير وتراجع المؤشر بأكمله أكثر من 8% خلاله.
ففي الثاني من فبراير أعلنت شركة "ميتا" عن انخفاض عدد المشتركين النشطين من 1.93 مليار إلى 1.929 مليار، وعلى الرغم من أن هذا الانخفاض كان محدودًا للغاية إلا أنه تناقض مع توقعات الشركة السابقة بزيادة عدد المشتركين 1.5% بما أدى لتراجع كبير في قيمة الشركة.
وفقدت الشركة أكثر من 34% من قيمتها السوقية خلال 3 أشهر لاحقة، وأصبح مستوى سعر السهم في نهاية مايو أقل من 50% من المستوى القياسي السعري الأعلى.
وعلى الرغم من اعتبارات عدة أدت لتراجع السهم، ومنها منافسة "تيك توك، والصراعات مع "أبل" إلا أن سبب الهبوط الرئيسي وفقًا لخبراء "فوربس" كان حدوث تراجع في الثقة في التوقعات التي تصدرها "ميتا" والتي يبني عليها المتعاملون مواقفهم من الشركة سواء بشراء السهم أو بيعه أو الإحجام عن اقتنائه.
أما "نتفليكس" فقد أدت بياناتها الخاطئة حول التوسع في عدد المستخدمين و"صدمة" الأسواق في تراجعها بعد ذلك إلى انخفاضها التدريجي إلى مستوى سعري دون 200 دولار للسهم طيلة شهر مايو، بينما تخطى السهم 680 دولارًَا في قمة سعره قبل بضعة أشهر وبالتحديد في الثاني عشر من نوفمبر2021 بما يعكس التأثير الحاد للتوقعات الخاطئة بعد تكشفها للمستثمرين على سعر السهم.
اشتر الإشاعة
وهنا يجب تذكر مقولة رائجة في الأسواق الغربية وهي "اشترِ الإشاعة، بِع الأخبار"، مما يعني أن المشاركين في السوق يتداولون بناءً على توقع الأخبار الجيدة وفقاً لصدور بيانات من شركات أو توقعات من محللين، والتي تميل إلى رفع قيمة السهم، وعندما تظهر الأخبار فعليًا، يمكن أن يصل السهم إلى ذروته وعندها يجب البيع لأن السهم يميل إلى الانخفاض.
يقول "أنتوني دينير"، الرئيس التنفيذي لمنصة التداول "وي بول" (Webull)، إذا ارتفع سعر السهم خلال ربع العام بناءً على توجيهات أرباح إيجابية للمحللين، فغالبًا ما يتم تسعير الأرباح الجيدة في السهم قبل إعلان الأرباح (أي أنه يصل إلى قمته السعرية بالفعل قبل الإعلان الفعلي عن الأرباح).
ويقول: "إذا كانت الأرباح تتطابق مع التوقعات، وارتفع السهم بناءً على هذا التوقع، فقد تم "تسعير معظم الحماس" أي تحويل الرغبة في شراء السهم إلى واقع انعكس على سعره، ولذلك يبيع المستثمرون الأخبار.
على الجانب الآخر، إذا تجاوزت الأرباح التوقعات، فإن أداء الشركة أفضل من المتوقع. يقول "دينير": "إن التغلب على التوجيهات يجعل المزيد من المستثمرين يقفزون في العربة ويشترون المزيد من الأسهم".
والشاهد هنا أنه أيًا كانت مهارة الرسام (المستثمر) فإنه لن يتكمن من الوصول لصورة تشبه الواقع دون أدوات ملائمة، ومن أدوات المستثمر الرئيسية قوائم صحيحة وتوقعات ناجعة، ولذا يجب على المستثمر باستمرار تتبع تاريخ الشركات والمحللين للنظر في أيهم يصلح للاعتماد عليه في رسم صورته النهائية وأيهم سيجعلها بعيدة عما هو كائن على الأرض.
المصادر: أرقام- فوربس- بلومبرج- سي.إن.بي.سي- ذا بالانس- ذا موتلي فوول
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}