على الرغم من استهلاله الخطاب السنوي -الأهم لأي رئيس أميركي- "حالة الاتحاد" بالحديث 12 دقيقة حول روسيا، بسبب الطبيعة الطارئة والمهمة للقضية، فقد أولى"جو بايدن" أهمية كبيرة لقضية أخرى في حديثه: التضخم.
أولوية قصوى... لماذا؟
ففي خطابه، أعلن "بايدن" أمام مجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين (الكونغرس)، أول من أمس (الثلاثاء)، أن السيطرة على معدلات التضخّم المرتفعة في الولايات المتحدة هي "أولويته القصوى"، داعياً إلى تعزيز الصناعة الأميركية لتخفيف الاعتماد على سلاسل التوريد الأجنبية، مضيفا: "أولويتي القصوى هي السيطرة على الأسعار".
ولا شك أن وضع التضخم على رأس أولويات الرئيس الأمريكي أمر منطقي للغاية لأكثر من سبب، أولها تأثيره على معدل النمو الحقيقي للبلاد، فضلا عن تبقي 8 أشهر فحسب على موعد انتخابات التجديد النصفي لـ"الكونغرس"، بالإضافة لتضرر كثير من الأمريكيين اقتصاديا من ارتفاع أسعار السلع الأساسية.
وتشعر الإدارة الأمريكية بأن "إنجازاتها الاقتصادية"، والمتمثلة في رفع أجور غالبية الأمريكيين في أدنى الهرم الاقتصادي خلال العامين الماضيين، وعودة معدلات توظيف الأمريكيين إلى المعدلات الطبيعية، "غير مقدرة" بسبب التضخم.
فعلى الرغم من موجة الاستقالات الكبيرة، فإن نسبة البطالة لم تتعد 4% نهاية يناير الماضي، لتعود إلى مستوى مقارب لما كانت عليه قبل جائحة كورونا، حيث كانت في مستوى 3.5%، ورغم ذلك كشف استطلاع لـ"جالوب" في فبراير الماضي أن نسبة الأمريكيين الداعمين لسياسات الرئيس الاقتصادية لم تتخط 37%.
كيف وصلت أمريكا إلى هذه النقطة؟
تجدر الإشارة هنا إلى أنه على الرغم من أن انخفاض البطالة من 6.4% إلى 4% فحسب في الولايات المتحدة وهو أمر إيجابي بطبيعة الحال، فإن له أثراً سلبياً يتمثل في زيادة قدرات الإنفاق للأمريكيين بشكل عام بما فاقم مشكلة التضخم المستفحلة بالفعل.
وتكشف دراسة لمركز "بيو" للدراسات أن الولايات المتحدة شهدت تسارعاً لمعدل التضخم بشكل غير مسبوق بين عامي 2019-2021، حتى أنها أتت في المركز الثالث بعد البرازيل وتركيا (وهو أمر غريب بوصفها من الاقتصادات "المستقرة")، بينما لم تعان أي من الدول الغنية الأخرى من مثل تلك المعدلات بأية حال.
لذا فقد كان قرار الرئيس الأميركي بتخصيص 1.9 تريليون دولار كمساعدات مباشرة للأمريكيين بمثابة "صب للزيت على النار"، ولا سيما أنها توجهت على هيئة شيكات مباشرة للأمريكيين (المستهلكين)، وفي الوقت نفسه أقر الرئيس برنامجاً بقيمة تريليون دولار لدعم البنية التحتية وإحداث رواج في الأسواق.
فبغض النظر عن ضرورة برنامج الشيكات الأمريكي من عدمه، إلا أن توقيته جاء في الفترة التي كانت سلاسل التوريدات تعاني خلالها بأقصى صورة، وبالتالي بدت الصورة على هيئة مستهلكين معهم أموال وفيرة (وحصلوا عليها بسهولة فيميلون لتبديدها سريعا) ولا يجدون بضاعة تكفيهم لتكون النتيجة الحتمية التضخم بطبيعة الحال.
محاولات للسيطرة
والأزمة هنا أنه مع تعقد وسائل الإنتاج والنقل والتوزيع وتشابكها أدى التضخم الأمريكي إلى موجة تضخمية عالمية كبيرة للغاية، ومع استرداد الكثير من الاقتصادات لعافيتها نسبيا وتحقيقها نسب نمو موجبة في 2021 جاءت موجة التضخم كبيرة للغاية وقياسية في العديد من الدول.
ولذلك حققت الولايات المتحدة في يناير الماضي أعلى معدل تضخم منذ عام 1983، وذلك قبل انفجار الأزمة الأوكرانية التي ستسهم بطبيعة الحال في تدعيم الموجة التضخمية برفع أسعار المحروقات، وإضافة المزيد من العقبات لسلاسل التوريد.
والأزمة التي تواجه "بايدن" حاليا هي أن التضخم، الذي ساهمت إدارته بتفاقمه، يصعب السيطرة عليه في ظل تعقد وتنوع أسبابه من مشاكل خطوط التوريد، والصراعات الجيوسياسية، وارتفاع أسعار الطاقة، وأسباب "طبيعية" متعلقة بارتفاع أسعار السلع الأولية.
ولمحاولة حل مشكلة سلاسل التوريد، استبق "بايدن" خطابه أمام "الكونغرس" بخطة تستهدف مساعدة سلاسل التوريد المتعثرة بالفعل، بإقرار 450 مليون دولار في صورة منح للمشروعات المرتبطة بالموانئ، وأشارت الإدارة الأمريكي إلى أن الهدف الرئيس من تلك الخطوة هو "التيسير على الأسر الأمريكية".
فالشاهد أن عجز الموانئ الأمريكية عن التخلص من العديد من الحاويات والبضائع التي تراكمت خلال فترة كورونا يعيق عملها بشدة (وهو الأمر الحادث في موانئ كثيرة حول العالم)، بما يزيد من تكاليف الاستيراد والتصدير ويحمل الاقتصاد العالمي والأمريكي ضغوطا تضخمية يمكن تلافيها.
الفائدة الأمريكية كلمة السر
ذكر رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي "جيروم باول" أمس الأربعاء أنه يميل إلى دعم زيادة أسعار الفائدة 25 نقطة أساس في اجتماع السياسة النقدية في منتصف مارس، لكنه قال إن البنك مستعد للتحرك بقوة أكبر لاحقا إذا لم يهدأ التضخم مثلما هو متوقع.
إذن هذا ما يحاول الرئيس الأمريكي استخدامه للسيطرة على التضخم المتصاعد، واستخدام أسعار الفائدة، والسعي لحل مشكلة سلاسل التوريدات، والإفراج عن كميات من النفط من الاحتياطيات الأمريكية لمحاولة تهدئة أسعار النفط المرتفعة.
ويتشكك كثيرون في تمكن البنك الفيدرالي في إنهاء مشكلة التضخم برفع الفائدة بنسبة 0.25% فحسب، لا سيما أن المطلوب هو خفض التضخم من نسبة 7.5% إلى النسبة "المفضلة" للبنك قرب 2% وهو ما يستحيل تحقيقه بالسرعة المطلوبة دون استخدام كبير لأداة سعر الفائدة.
ومن بين المتشككين بنك "جولدمان ساكس" والذي توقع قبل قرابة شهر أن يرفع الاحتياطي الأمريكي الفائدة 7 مرات خلال عام 2022، ولا شك أن ضغوط التضخم تشير إلى احتمال انطباق هذه التوقعات (ولو بنسبة كبيرة).
كما أن الأزمة في أن العناصر التي تبدو خارج عن السيطرة الأمريكية كثيرة للغاية مثل: التوترات الجيوسياسية بسبب الحرب الأوكرانية (وحتى تبعاتها في حال انتهائها بشكل مفاجئ)، أسعار المحروقات المرتفعة، استمرار الأزمة في وسائط إنتاج متعددة في مقدمتها أشباه الموصلات واللدائن، ارتفاع أسعار السلع الأولية والمنتجات الزراعية عالميا.
وفي المقابل فإن الاستخدام الكبير لأداة الفائدة الأمريكية، برفعها بنصف في المائة أو أعلى من ذلك حتى، سيؤدي إلى المزيد من الفرار لرؤوس الأموال من الدول النامية، التي تعاني بالفعل من موجة من انسحابات رؤوس الأموال بسبب الأزمة الأوكرانية والرغبة في الاحتفاظ بالأصول في بلدان "أكثر أمنا".
ولهذا السبب يبقى انتعاش الاقتصاد العالمي (الذي يعتمد في النمو على الاقتصادات الناشئة) رهينة بقرارات البنك المركزي الأمريكي المرتبطة في المرحلة المقبلة على الأقل بالتضخم في أمريكا نفسها.
المصادر: بلومبرغ- رويترز- بروكينجز- نيويورك بوست- تايم
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}