في السنوات الأخيرة تزايد الوعي بين الأسر والآباء حول العالم باضطراب في سلوك بعض الأطفال يُطلق عليه اضطراب "فرط الحركة ونقص الانتباه – ADHD" وهذا السلوك يتلخص من عنوانه في مستوى طاقة مرتفع لدى الأطفال يجعلهم طوال الوقت في دائرة مفرغة من النشاط اللانهائي دون كلل، وربما يبدو أن الاقتصادات في عالم اليوم يُمكن أيضاً أن تُوصف بنفس نوع الإضطراب السلوكي.
الاقتصادات الناشئة تتسم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بتحقيقها معدلات نمو شديدة الارتفاع، وهذا مرجعيته إلى أنها تتحرك من أساس منخفض أي أنها تبدأ من تحت الصفر، لذلك تحقق معدلات زيادة كبيرة بشكل سنوي.
الحرارة المرتفعة
على سبيل المثال: دولة زيمبابوي لو قررت العام القادم أن تطُلق خطة لوقف استخدام الأوراق وبدء تعميم الأتمتة والتكنولوجيا في المصالح الحكومية، بعد 5 أعوام على الخطة ستجد أن معدل نمو قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في زيمبابوي قد حقق معدل نمو أكبر بأضعاف مضاعفة من نظيره في ألمانيا مثلا، لماذا؟ بسبب الأساس أو نقطة الانطلاق التي بدأ منها وهكذا اقتصادات الدول أيضاً.
هذه المعدلات المرتفعة من النمو تعبر عن رغبة شديدة في تعويض الفارق بينها وبين نظيرتها المتقدمة، لكن حتى وإن نجحت الدول الناشئة في المضي قدماً وتحقيق قفزات اقتصادية، هذا الإنجاز لا يأتي مجاناً دون ثمن يُدفع، بل ينتج عنه ارتفاع لحرارة الاقتصاد، وهذه الحرارة هي نتيجة السرعة والقوة التي تتحرك بها هذه الدولة الناشئة للحاق بالمنافسة والسباق العالمي.
هذا ما يمكن أن نطلق عليه اضطراب "ADHD – للدول"، فالدولة تكون مفرطة في الحركة الاقتصادية وترفع من معدلات التشغيل لكافة مواردها وإمكاناتها في إطار زمني ضيق وقصير، فرط الحركة ينتج عنه حرارة مرتفعة، هذه الحرارة تحتاج إلى فريق إطفاء لتبريدها، لأن استمرار ارتفاعها قد ينتج عنه حوادث وحرائق لا تُحمد عقباها، لذا لا تجد الحكومات سلاحًا أفضل من سعر الفائدة كدواء مخفض للحرارة العالية.
دفع ثمن النمو السريع
أهم نتائج الحرارة المرتفعة للاقتصادات هو معدل التضخم وارتفاع مستويات أسعار السلع والخدمات عن السيطرة بعيدة عن المستهدف والمستوى التوازني، وهذا يضع الحكومات وخاصة السلطة النقدية في حيرة من أمرها، من ناحية هي تريد تحقيق نمو وخلق وظائف لتخفيض البطالة والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي ومنح أمل في غد أفضل للمواطنين، ومن ناحية أخرى فرط الحركة ينتج عنه حرارة عالية وهي ارتفاع مستويات أسعار السلع والخدمات.
*معدل التضخم في مصر لشهر يوليو
تجارة الفائدة
رفع الفائدة يمنح الفرصة للمستثمرين في الاقتصادات الغنية والمتقدمة لاقتناص فرص ربحية غير متوفرة في بلادهم التي تتسم بالفائدة المنخفضة وأحيانا السالبة، لذا تتجه تدفقات أموال الصناديق والشركات والمؤسسات الاستثمارية بالدولار الأمريكي نحو الاقتصادات الناشئة التي ترفع الفائدة لتبريد اقتصادها.
أقل أسعار فائدة في الاقتصادات المتقدمة (%) – حتى سبتمبر 2021 |
|
سويسرا |
(0.75 %) |
الدنمارك |
(0.50 %) |
اليابان |
(0.10 %) |
منطقة اليورو |
0.0 % |
بريطانيا |
+ 0.10 % |
أمريكا |
+ 0.25 % |
لكن الصناديق والمستثمرين الأجانب لا تجذبهم أسعار الفائدة المرتفعة في دول ناشئة تعاني من تذبذبات اقتصادية عنيفة قد ينتج عنها أمران سيئان:
الأول: تضخم يخرج عن السيطرة.
الثاني: سعر صرف غير مستقر.
لأن حدوث أحد هذين الاحتمالين يعني تعريض الصفقة لخطر كبير ينتج عنه ربح أقل من المخطط له أو صافي خسارة.
أعلى معدلات التضخم الأساسي في العالم بحسب أحدث إحصائيات 2021 |
|||
الترتيب |
الدولة |
التضخم |
الشهر |
1 |
الارجنتين |
55.4 % |
يوليو |
2 |
تركيا |
16.7 % |
أغسطس |
3 |
قرغيزستان |
14.6 % |
يوليو |
4 |
نيجيريا |
13.7 % |
يوليو |
5 |
سيشل |
9.4 % |
أغسطس |
6 |
غينيا |
8.7 % |
يونيو |
7 |
أرمينيا |
8.1 % |
يوليو |
8 |
كازاخستان |
7.8 % |
يوليو |
9 |
العراق |
7.5 % |
يوليو |
10 |
أوكرانيا |
7.3 % |
يوليو |
الفائدة الحقيقية
ارتفاع التضخم دفع إلى ظهور مصطلح جديد يُسمى: الفائدة/ العائد الحقيقي، وهو مصطلح يعبر عن سعر الفائدة أو العائد الذي تدفعه الدولة على سنداتها مطروحاً منه معدل التضخم في نفس الدولة، هكذا تصل إلى الناتج الحقيقي من المتاجرة بالديون ما إذا كان ربحاً أم خسارة!
كيف تتم الصفقة؟
يوظف المستثمرون أموالهم المقومة بعملة صعبة مثل الدولار أو اليورو ويشترون أوراقا مالية لدول ذات أسعار فائدة حقيقية مرتفعة والمكسب يكون من ناحيتين، الأولى من الفارق الكبير بين سعر الفائدة في دولهم المتقدمة وهذه الدول الناشئة، والثانية هو من فارق سعر الصرف بين هذه العملات الدولية وعملات الدول الناشئة الضعيفة.
على سبيل المثال: افترض أن هناك صندوق استثمار أمريكيا اسمه (A) ويملك في محفظته مليون دولار، يدخل الصندوق إلى سوق فيتنام ويقوم بتحويل المليون دولار إلى عملة فيتنام "دونج" على سعر صرف 22.7 دونج لكل دولار، فتصبح 22.7 مليون دونج فيتنامي، ثم يشتري سندات وأذون خزانة فيتنامية (أدوات الدين الحكومية) بأمواله المقومة الآن بالعملة المحلية، على سعر فائدة 5% مقارنة بسعر 0.25% في الولايات المتحدة وبعد ذلك بمدة قصيرة يبيع هذه الأوراق ويقوم بتحويل أمواله بالمكسب من الدونج الفيتنامي إلى الدولار الأمريكي.
السيناريو الرائع: أن يدخل المستثمر في سوق ترتفع فيه قيمة الدولارالأمريكي أمام العملة المحلية مع ثبات أو تذبذب طفيف للتضخم، هنا يكسب المستثمر من ناحيتين أولا فارق سعر الفائدة وثانيا من تحسن سعر الصرف لصالحه.
السيناريو العادي: أن يدخل المستثمر في سوق يتسم بسعر صرف وتضخم مستقر وتحت السيطرة ويحقق مكسبا جيدا من فارق سعر الفائدة.
السيناريو السيئ: أن يدخل المستثمر في سوق يواجه أزمة عنيفة أو مُفاجئة تتسبب في ارتفاع مفرط للتضخم، أو يدخل إلى سوق ترتفع فيه قيمة العملة المحلية أمام الدولار الأمريكي، وهنا ينخفض المكسب عما كان مخططا له وقد يتحول ناتج الصفقة إلى صافي خسارة.
أقل أسعار فائدة حقيقية بقائمة الدول الناشئة - 2020 |
||
الترتيب |
الدولة |
معدل الفائدة "سالب" |
1 |
سورينام |
(12.6 %) |
2 |
زامبيا |
(9.9 %) |
3 |
الأرجنتين |
(7.4 %) |
4 |
المجر |
(3.5 %) |
5 |
بيلاروسيا |
(0.9 %) |
6 |
التشيك |
(0.7 %) |
تجارة الفائدة والجائحة
في الفترة الأولى للوباء أي في الربع الثاني من العام الماضي، حدث انخفاض كبير وتاريخي لتدفقات الاستثمارات الأجنبية في أدوات الدين الحكومية المُصدرة من الدول الناشئة، صافي تخارج التدفقات وصل لما يناهز 100 مليار دولار بحسب معهد التمويل الدولي في فترة مارس – مايو 2020.
لكن ما لبثت التدفقات أن لامست القاع التاريخي قبل أن ترتفع مرة أخرى مع تحسن معنويات السوق والتوصل إلى لقاح، القاعدة تقول إن أوقات الأزمات تشهد نزوحا لاستثمارات الأجانب من الأسواق الناشئة وتتوجه نحو الاقتصادات الكبرى للتحوط والحذر وحماية أصول أموالهم من أي تقلبات قد لا تقدر الدول الناشئة على التعامل معها.
تجارة الفائدة في المنطقة العربية
تُعد مصر من الأعلى دفعاً لفائدة حقيقية للديون الحكومية ومن ثم بين الأكثر جذباً للاستثمارات في الأسواق الناشئة وفقا لوكالة "بلومبرج" قبل وأثناء جائحة كورونا، وبفضل برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي حقق نجاحاً في استعادة ثقة المستثمرين الدوليين، بالتزامن مع استقرار سعر الصرف فترات 2017 – 2019 بعد تحرير الجنيه، مما تسبب في ارتفاع كبير بتدفقات وصلت إلى أكثر من 20 مليار دولار قبل الجائحة.
سعر الفائدة في المنطقة العربية حتى 2021 |
||
الترتيب |
الدولة |
سعر الفائدة |
1 |
السودان |
19.6 % |
2 |
لبنان |
10.0 % |
3 |
مصر |
8.25 % |
4 |
تونس |
6.25 % |
5 |
العراق |
4.0 % |
6 |
الجزائر |
3.0 % |
7 |
ليبيا |
|
8 |
الأردن |
2.5 % |
9 |
قطر |
|
10 |
الكويت |
1.5 % |
11 |
المغرب |
|
12 |
الإمارات |
|
13 |
السعودية |
1.0 % |
14 |
البحرين |
|
15 |
عمان |
0.5 % |
ورغم تحسن أداء العملة المصرية أمام الدولار بمقدار يناهز الـ 16% بين 2019 و2021، فإن ذلك لم يمنع التدفقات الدولية من أن ترتفع بسوق أدوات الدين المحلية وتصل إلى 33 مليار دولار بحسب "ستاندرد أند بورز" بحلول أغسطس الماضي، وفي نفس الوقت اتسم أداء الاقتصاد المصري باستقرار ملحوظ في معدلات التضخم لتكون حول النطاق المستهدف من البنك المركزي بين 5% و9%.
عيوب رفع الفائدة
على الرغم من فاعلية سلاح الفائدة في تبريد حرارة الاقتصاد حين يعمل بكامل طاقته ويحقق معدلات نمو كبيرة، فإن أثر ذلك يكون سلبياً على معدلات الدين العام ومصروفات الفائدة في المالية العامة بالدول الناشئة مقارنة بالدول المتقدمة.
أعلى معدلات الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي في المنطقة العربية حتى 2020 |
||
الترتيب |
الدولة |
المعدل (%) |
1 |
السودان |
259 % |
2 |
لبنان |
172 % |
3 |
ليبيا |
156 % |
4 |
البحرين |
128 % |
5 |
الأردن |
92 % |
6 |
مصر |
90 % |
7 |
تونس |
87 % |
8 |
المغرب |
77 % |
9 |
قطر |
71 % |
10 |
العراق |
68 % |
وذلك يستلزم الكثير من الحرص ووضع القيود اللازمة على معايير الاستدانة ودراسة الجدوى الخاصة بالمشروعات المخصص لها أي قروض جديدة بسعر فائدة مرتفع مهما بلغت إغراءات ارتفاع الطلب من قبل المستثمرين الدوليين والصناديق العالمية على طروحات السندات وأذون الخزانة الحكومية، ومن ناحية أخرى يمكن أن يساهم تحسين قيمة العملة المحلية بجانب إصلاح الخلل الذي يدفع التضخم نحو الارتفاع في معالجة جذور الحاجة إلى رفع سعر الفائدة طوال الوقت، وذلك بهدف الخروج من الدائرة المفرغة والمطاردة اللانهائية بين الفائدة والتضخم.
المصادر: أرقام – البنك الدولي – صندوق النقد الدولي - بلومبرج.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}