في منتصف القرن التاسع عشر وفي ذروة التوسع والنمو والنهضة الصناعية والاقتصادية في الدولة الأمريكية الناشئة، تم انتخاب الرئيس الأمريكي الحادي عشر "جيمس بولك" المنتمي للحزب الديمقراطي، الذي تعهد بالتوسع جغرافياً وتحقيق المجد إما بالطرق السلمية أو بالقوة المسلحة، وهكذا في عهده كسبت أمريكا أراضي جديدة واشتُهر عهد "بولك" بعهد التوسعات الجغرافية.
وكنتيجة لانتصاراتها على الجارة الضعيفة "المكسيك"، انتهت الحرب المكسيكية الأمريكية بانتصار ساحق وأرباح هائلة للجيش الأمريكي الناشئ الغني والحديث، وكان من ضمن هذه الغنائم المنطقة الجنوبية الشرقية من الخريطة الأمريكية في وقتنا الحاضر، والمسماة بـ"خليج المكسيك".
لم يكن يدري لا الأمريكان ولا المكسيكيون أن هذا الجزء الجغرافي من الأراضي المكسيكية الذي آل للأمريكيين سوف يُكتشف فيه موارد نفطية مليارية بكميات هائلة ويكون مسؤولاً عن إنتاج نحو نصف المنتجات التكريرية الأمريكية عبر المصافي والحفارات الموجودة في خليج المكسيك براً وبحراً.
لكن ورغم هذا الحظ السعيد الذي جلبه خليج المكسيك للأمريكيين، فقد جلب معه أيضا حظاً تعيساً مصحوبا برعونة الطقس وشدته، الخليج النفطي استقبل عشرات الأعاصير القاتلة والظواهر المناخية القاسية في آخر مائة عام، عادة يكون شهر سبتمبر هو الموسم السنوي للأعاصير لكن الفترة الممتدة من يونيو ونوفمبر تكون هى فترة استنفار المؤسسات الأمريكية المعنية بالتعامل قبل وأثناء وبعد الكارثة الطبيعية.
ترتيب أسوأ 10 أعاصير من حيث التكلفة الاقتصادية في تاريخ الولايات المتحدة "مليار دولار" |
|||
الترتيب |
اسم الإعصار |
العام |
التكلفة بالقدرة الشرائية للدولار الأمريكي في 2020 |
1 |
كاترينا |
2005 |
86.5 |
2 |
ساندي |
2012 |
33.9 |
3 |
هارفي |
2017 |
31.9 |
4 |
إيرما |
2017 |
31.8 |
5 |
ماريا |
2017 |
31.2 |
6 |
أندرو |
1992 |
29.7 |
7 |
إيكي |
2008 |
21.7 |
8 |
ويلما |
2005 |
14.0 |
9 |
ميشيل |
2018 |
13.7 |
10 |
إيفان |
2004 |
12.0 |
هذه المقدمة التاريخية كانت ضرورية كي تتعرف على قيمة ودور خليج المكسيك في قصة النفط الأمريكية.
إحصائيات عن دور خليج المكسيك في صناعة النفط والغاز الأمريكية |
|
حصة الخليج في الإنتاج النفطي اليومي الأمريكي |
15 % |
حصة الخليج في إنتاج الغاز اليومي الأمريكي |
5 % |
حصة الخليج في إجمالي قدرات تكرير النفط الأمريكية |
47 % |
حصة الخليج في إجمالي قدرات معالجة الغاز الأمريكية |
51 % |
تأثير "إيدا" على صناعة النفط الأمريكي
إلى أي مدى يؤثر "إيدا" على إنتاج الهيدروكربون الأمريكي؟ التأثير فادح، فبحسب مكتب سلامة وحماية البيئة الوطني الأمريكي وحتى الثامن والعشرين من أغسطس الماضي، أعلن عن تعليق وصل إلى 91% من إنتاج النفط اليومي و85% من إنتاج الغاز الطبيعي اليومي للولايات المتحدة، وذلك في أعقاب عمليات إخلاء 279 منصة للطاقة بسبب الإعصار العنيف.
ورغم أن هذه الكارثة تتسم بالموسمية و"الوقتية"، لكن لتدرك حجم المشكلة، هذه الـ 279 منصة كانت تمثل 50% من إجمالي المنصات المُثبتة في خليج المكسيك، وتم تحريك نحو 11 سفينة حفر من مواقعها لتجنب مسار الإعصار، والتأثير بالتأكيد وصل للسعر العالمي وأثار الكثير من القلق والحذر، لأن هذا الهبوط الحاد في الإنتاج الأمريكي من النفط والغاز يحدث في فترة فوران للطلب على الطاقة وليس فترة خمول.
إذن انخفاض الإنتاج في هذه الفترة يعني انخفاضًا في منحنى العرض أثناء ارتفاع في منحنى الطلب، ما يعني بالضرورة ارتفاعًا حتمياًّ في الأسعار، في ظل احتياج شره لاستهلاك للطاقة مدفوع من التعافي والطلب الكبير من المستهلكين والشركات الأمريكية على حد سواء.
التوقعات المستقبلية
بغض النظر عن العوامل الوقتية مثل "إيدا"، لا تزال توقعات الطاقة قصيرة ومتوسطة المدى عرضة لمستويات عالية من عدم اليقين والتذبذبات والتأرجح، لكنها تميل للتفاؤل إلى حد كبير في الوقت الحالي مقارنة مع فترات سابقة من 2020 و2021 اللتين كانتا فيهما الأمور أكثر سوءا وفوضوية من الوضع الجاري.
أهم بواعث التفاؤل بأسعار النفط المستقبلية على الأجل المتوسط هي مواصلة النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة ومعظم الاقتصادات المتقدمة بما فيها منطقة اليورو واليابان، في التحسن والتعافي بعد أن وصلت هذه الاقتصادات إلى أدنى مستوياتها منذ عدة عقود خلال عام 2020، وبالطبع التحسن يشمل الصين والهند.
الأسعار تتحسن نسبياً
بلغ متوسط الأسعار الفورية لخام برنت 75 دولارا للبرميل في يوليو الماضي، بزيادة قدرها دولاران عن يونيو وبزيادة قدرها 25 دولارا للبرميل عن نهاية عام 2020، ما يعني أن الأمور في طريقها للتحسن رغم الأزمات التى واجهت الاقتصاد العالمي منذ بداية 2021 مثل أزمات المناخ القاسية، وكذلك وضع أوبك بلس، والقلق حيال الإنتاج الإيراني والليبي والفنزويلي من النفط.
ارتفعت أسعار برنت هذا العام نتيجة عمليات السحب المطرد على مخزونات النفط العالمية، التي بلغ متوسطها 1.8 مليون برميل يومياً خلال النصف الأول من عام 2021، وظلت عند ما يقرب من 1.4 مليون برميل يوميا في يوليو وكذلك أغسطس وهو السحب المدفوع بالاستهلاك الشره والكبير على النفط ومشتقاته لمقابلة الطلب المرتفع على السلع والبضائع والخدمات.
توقعات الأسعار في 2021 و2022
تتوقع إدارة الطاقة الأمريكية أن تظل أسعار برنت قريبة من المستويات الحالية للفترة المتبقية من عام 2021، بمتوسط 72 دولارا للفترة من أغسطس إلى نوفمبر، لكن فيما يخص عام 2022، ترى الوكالة أمراً آخر سيحدث وهو الانخفاض مقارنة بـ 2021.
بفضل ارتفاع المعروض عن الطلب، وتفوق الإنتاج النفطي على الاحتياجات واحتوائه للاستهلاك الشره الناتج عن رفع قيود كورونا، ذلك بالتزامن مع النمو المستمر في المعروض من إنتاج دول "أوبك بلس"، إضافة إلى تسريع زيادات إنتاج النفط الأمريكي، كل هذه الأسباب ستدفع النفط في العام المقبل إلى مستوى منخفض نسبياً بحدود الـ 66 دولارا لبرميل خام برنت بحسب الوكالة الأمريكية.
توقعات الاستهلاك في 2021 و2022
تشير تقديرات وكالة الطاقة الأمريكية إلى أن كمية قدرها 98.8 مليون برميل في اليوم من النفط ومنتجات الوقود المختلفة قد اسُتهلكت على مستوى العالم في يوليو الماضي، بزيادة قدرها 6.0 ملايين برميل في اليوم عن يوليو 2020 ولكنها أقل بحوالي 3.4 مليون برميل في اليوم مقارنة مع يوليو 2019، وهو ما يعني أن مستويات الاستهلاك أصبحت أفضل من أسوأ فترات الجائحة، لكنها لا تزال أقل من فترات ما قبل الجائحة، وهذا العامل في المقارنة له دور فعال في صياغة التوقعات متوسطة وطويلة المدى للنفط.
هل تظل المستويات أقل مما قبل الجائحة لفترة طويلة؟
توقعات الوكالة تشير إلى أن الاستهلاك العالمي للنفط سيبلغ 97.6 مليون برميل في اليوم عام 2021، وفي عام 2022 سيصل إلى متوسط قدره 101.2 مليون برميل في اليوم وهو أعلى من مستويات ما قبل الجائحة بمقدار 300 ألف برميل، ورغم ضآلة الفارق بين 2019 و2022 فإن تجاوز هذا الحاجز يُعد حدثاً كبيراً في تاريخ النفط أثناء الجائحة.
الخلاصة، النفط في 2021 ساعدته ظروف عدة على تحقيق مستويات أسعار أفضل نسبياً مقارنة بـ 2020، وبغض النظر عن العوامل المؤقتة مثل إعصار "إيدا" فإن آفاق المستقبل جيدة وتتسم بدرجة أكبر من اليقين والرؤية الواضحة، لكن يجب تذكر أن المعيار الزمني في أية مقارنة ليس عام الجائحة وإنما عام ما قبل الجائحة حين كانت الأمور طبيعية والطلب على الطاقة عند مستوياته المعهودة، لذا فيجب طوال الوقت المقارنة مع عام 2019 وليس 2020 كما تخطئ بعض التقديرات والتقارير التحليلية.
لكن في كل الأحوال تحقيق مستوى 66 دولارا في 2022 ليس بالأمر السيئ كلياً، لأنه يُنتظر له أن يتزامن مع مستويات تلقيح مرتفعة للغاية وفتح للنشاط الاقتصادي قريب لدرجة كبيرة من المستوى الطبيعي وحركة تدفقات للاستثمارات الأجنبية في دول العالم وتوليد ملايين الوظائف، مما يعني أن الدول المنتجة والمستهلكة على حد سواء ستكون قادرة على التوازن وتحقيق مكاسب من قطاعات أخرى وأسواق أخرى، ولن يكون العامل السلبي الوحيد وقتها هو سعر النفط.
المصادر: أرقام – وكالة الطاقة الأمريكية – إس اند بي بلاتس – سي إن بي سي – وول ستريت جورنال – سي إن إن – ستاتيستا – مركز أبحاث العلاقات الخارجية الأمريكي – كونتري ايكونومي.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}