في الثاني من يوليو 1997 اضطر البنك المركزي التايلاندي لتعويم البات بعد انهيار قدرته على مقاومة هجمات المضاربين الأجانب على العملة التايلاندية، ووصول احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي إلى 1.14 مليار دولار فقط هي قيمة ما تبقى عقب إنفاق المركزي لأكثر من 23 مليار دولار على دعم البات دون جدوى.
كان هذا اليوم بمثابة البداية الفعلية للأزمة المالية الآسيوية التي سرعان ما انتقلت من تايلاند إلى الفلبين وإندونيسيا وكوريا الجنوبية وهونج كونج التي تعرضت اقتصاداتها جميعًا لهجمات من قبل المضاربين تمت هندستها بشكل جيد لدرجة أن السرعة والحدة التين هبطت بهما عملات تلك الدول أذهلت الكثير من المراقبين.
كوريا فوق صفيح ساخن
في كوريا الجنوبية كان الشعب يتابع تطورات الأزمة بينما يسيطر عليه الرعب من أن تلقى بلاده مصير تايلاند التي ركعت تمامًا، كان الاقتصاد الكوري في ذلك الوقت يحتل المرتبة الحادية عشرة في ترتيب أكبر اقتصادات العالم، كما أنه لم يكن يعاني مثل غيره من الاقتصادات المتأثرة بالأزمة من مشاكل كبيرة في الحساب الجاري أو العجز التجاري.
ولكن على الجانب الآخر كان لدى كوريا الجنوبية نقطة ضعف خطيرة تمثلت في ديونها الدولارية الضخمة التي اقترب أمد استحقاقها في نفس الوقت الذي لا تكفي فيه احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي لإقناع الدائنين بأن سيول قادرة على سداد كل ديونها.
استغلالًا منهم لتلك الحقيقة، شرع المضاربون في نوفمبر من عام 1997 في الهجوم على العملة الكورية والمراهنة على هبوطها، في البداية أنفق البنك المركزي الكوري عشرات المليارات من الدولارات في محاولة للدفاع عن الوون، ولكن في غضون أسابيع انهارت احتياطيات البلاد من حوالي 30 مليار دولار إلى أقل من 5 مليارات دولار.
في محاولة شبه يائسة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه فرض المركزي الكوري نسبة تذبذب ذات نطاق ضيق على الوون بحيث يمنع ارتفاع أو انخفاض العملة خلال الجلسة بأكثر من 2.5% مقابل الدولار الأمريكي، ولكن مع نفاد الاحتياطي شعر المضاربون بالسيطرة.
اللجوء إلى الصندوق
مع انطلاق أول جلسة بعد تطبيق نسبة التذبذب وفي غضون 5 دقائق فقط انخفض الوون بأقصى نسبة مسموحة، واستمر الوضع على تلك الحال لعدة جلسات إلى أن اتخذ المركزي الكوري قرارًا غريبًا بدا وكأنه مساعدة للمضاربين حين قام بتوسيع نطاق التذبذب المسموح به إلى 10%.
ازدادت الأمور سوءًا ووصل الوضع إلى نقطة حرجة جدًا، وهو ما اضطر كوريا الجنوبية في نهاية المطاف إلى أن تحذو حذو جيرانها في جنوب شرق آسيا باستثناء ماليزيا وتطلب المساعدة من صندوق النقد الدولي.
في ديسمبر من عام 1997 توصل صندوق النقد الدولي إلى اتفاق مع كوريا الجنوبية تحصل بموجبه الأخيرة على قرض بقيمة 58 مليار دولار بشرط التزامها بتنفيذ عدد من الإجراءات المالية الصارمة التي شملت على سبيل المثال رفع أسعار الفائدة والتقشف المالي وإصلاحات هيكلية وتعويم الوون بشكل كامل.
نزل خبر الاتفاق مع صندوق النقد الدولي كالصاعقة على الرأي العام الكوري الجنوبي، لدرجة أن عددًا من وسائل الإعلام المحلية أشار إلى ذلك اليوم باعتباره عارًا وطنيًا لأنه اليوم الذي خسرت فيه الحكومة الكورية برأيهم سيادتها، بينما قارن البعض ذلك الحدث بالاستسلام الكوري لليابان في عام 1910.
أطنان من الذهب
في محاولة لاستغلال حالة الحنق والغضب لدى الشعب من اتفاق صندوق النقد الدولي، تم إطلاق حملة وطنية ضخمة لحث المواطنين على التبرع ولو بجزء من حيازاتهم من الذهب البالغة نحو ألفي طن في شكل سبائك ومشغولات ذهبية وتماثيل وميداليات وشارات عسكرية بقيمة إجمالية تقترب من 20 مليار دولار، وهو ما يعادل نحو ثلث قيمة قرض الصندوق.
على نحو مفاجئ، لاقت الحملة استجابة واسعة من قبل الكوريين الذين تراصوا كبارًا وصغارًا، أغنياء وفقراء أمام نقاط التبرع من أجل التخلي طوعًا عن حيازاتهم من الذهب التي تحمل معظمها قيمة معنوية لأصحابها تفوق قيمتها المادية وذلك بغرض مساعدة بلادهم في سداد القرض الذي حصلت عليه من صندوق النقد الدولي في أسرع وقت ممكن.
في محاولة لدعم الحملة، قامت شركات كورية كبيرة مثل "سامسونج" و"هيونداي" باستخدام قوتها الإعلامية في التسويق للحملة من أجل إقناع أكبر عدد من المواطنين بالانضمام إليها، وهو ذات الأمر الذي حاول كثير من المشاهير فعله، حصلت الحملة على دفعة إعلامية كبيرة حين قام نجم البيسبول الشاب "ليجونجبيوم" بالتبرع بـ31.5 أوقية من الذهب في شكل جوائز وميداليات ذهبية حصل عليها خلال مسيرته المهنية.
في غضون شهرين فقط من انطلاقها، تمكّنت الحملة من جمع 226 طنًا متريًا من الذهب بقيمة إجمالية اقتربت في ذلك الوقت من 2.2 مليار دولار، بعد مشاركة نحو 3.5 مليون مواطن أي ما يقرب من ربع السكان بواقع 65 جرامًا من الذهب.
على الفور، قامت الحكومة بإذابة الذهب وتحويله لسبائك قبل أن تبدأ في إرساله في شحنات إلى صندوق النقد الدولي، وعلى الرغم من أن القيمة الإجمالية للذهب المتبرع به كانت قليلة جدًا بالمقارنة مع حجم القرض الذي يقترب من 60 مليار دولار إلا أن هذا المبلغ ساعد كوريا جدًا في جهودها لاحتواء أزمة الديون ناهيك عن إظهاره للحماس الوطني والوحدة الشعبية في البلاد.
في أغسطس من عام 2001 نجحت كوريا الجنوبية في تسديد الدفعة الأخيرة من القرض الذي حصلت عليه من صندوق النقد الدولي، وذلك قبل ثلاث سنوات تقريبًا من الموعد المحدد، ليعلن الرئيس الكوري الجنوبي حينها "كمدايجنج" تحول بلاده منذ تلك اللحظة من دولة مدينة إلى دولة دائنة.
المصادر: أرقام – نيويورك تايمز – بي بي سي – سي إن إن
كتاب: Biography of the Dollar
دراسة: Living with Rhetoric, Living against Rhetoric: Korean Families and the IMF Economic Crisis
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}