إن الإنسان كسول بطبعه، لا يعمل إلا تحت ضغط الحاجة، حتى لو كانت تلك الحاجة هي الحاجة إلى التمرد على الكسل المسيطر عليه طيلة الوقت، وينطبق ذلك أكثر ما ينطبق على كثير من مستثمري سوق الأسهم، وبالأخص أولئك الذين يقيمون لتوصيات المحللين وزنًا، فتراهم يبيعون ويشترون على أساسها، لأنهم لا يريدون أن يكبدوا أنفسهم عناء محاولة التوصل إلى القرار الاستثماري الصحيح من خلال البحث والتحليل.
"بيع وشراء واحتفاظ".. هذه هي التوصيات الثلاث الرئيسية الممكنة التي يسعك أن تجدها في التقارير الصادرة عن المحللين وشركات الوساطة في سوق الأسهم والتي ينصح خلالها جمهور المستثمرين بكيفية التعامل مع حيازاته من الأسهم، ورغم شعبية تلك التقارير والاهتمام الكبير الذي تحظى به إلا أن أكثر المستثمرين لا يعرفون كيفية تفسير محتوى تلك التقارير بشكل صحيح، فتجدهم يركزون على أكثر جزء عديم القيمة في تلك التقارير ألا وهو التوصيات، ولكن لماذا؟
ذئب في ثياب حمل وديع!
يوجد في السوق المالية شركات وساطة كثيرة، هذه الشركات توظف عددًا كبيرًا من المحللين الذين يقومون بمهام عديدة من بينها إخبار عملائها بالأسهم التي يجب شراؤها أو بيعها، ويخدم هؤلاء المحللين نوعان من العملاء؛ الأول هو المستثمرون المؤسساتيون مثل الصناديق الاستثمارية، والثاني هو المستثمرون الأفراد الذين دخلوا السوق رغبة في تنمية أموالهم التي ربما لم يكسبوها إلا بشق الأنفس.
ويتقاضى هؤلاء المحللون رواتبهم كل شهر لكتابة تقارير بحثية يوضحون خلالها آراءهم تجاه مجموعة معينة من الأسهم لعملاء الشركة، هذه التقارير البحثية تحتوي عادة على كمية هائلة من البيانات والمعلومات المفيدة، ولكن أهم مكونين في تلك التقارير واللذين يحظيان دائمًا بأكبر قدر من الاهتمام من قبل جمهور المستثمرين هما توصيات المحللين وتقديراتهم للأرباح المستقبلية.
في التوصية يوضح المحلل ما إذا كان على المستثمر بيع أو شراء سهم معين، وفي تقديرات الأرباح يحاول المحلل أن يتوقع مقدار ما ستكسبه الشركة في فترة مستقبلية ولتكن الربع المالي القادم على سبيل المثال، في الماضي كانت تلك التقارير متاحة لعملاء شركة الوساطة فقط، أما اليوم فأصبحت أغلب المعلومات التي ينتجها المحللون بما في ذلك التوصيات وتقديرات الأرباح وحتى التقارير البحثية بالكامل متاحة أمام كل المستثمرين تقريبًا.
ولكن لسوء الحظ، يستخدم كثير من المستثمرين التقارير البحثية الصادرة عن شركات الوساطة بطريقة خاطئة، حيث تجدهم يركزون على جزء لا قيمة له وفيه قدر كبير من التحيز مثل التوصيات ويتجاهلون المعلومات والتحليلات الغنية التي يحتوي عليها التقرير البحثي، والنتيجة هي محفظة استثمارية أداؤها ضعيف أو دون المتوسط إن لم تكن تعاني وتسجل خسائر.
السبب الرئيسي وراء التركيز المبالغ فيه من قبل جمهور المستثمرين على الجزء الخاص بالتوصيات في التقارير البحثية الصادرة عن شركات الوساطة هو أن تلك التوصيات تبدو في ظاهرها واضحة ومباشرة وسهلة الفهم، والأهم من ذلك هو أنها تضع بين أيدهم إجابة السؤال الذي يشغل بال كل مستثمر: "ماذا أفعل بشأن السهم؟" وبالتالي تكفيه الحاجة إلى خوض غمار عملية الفحص التدقيق في التفاصيل المملة لتقارير بحثية قد يتجاوز طولها العشر صفحات.
لكن لا تنخدع! توصية المحلل بالبيع والشراء هي ذئب في ثياب حمل، فرغم أنها بسيطة ومباشرة وواضحة إلا أنها في أكثر الأحيان خاطئة، ولنأخذ السوق الأمريكي الأكثر تعقيدًا وتقدمًا كمثال، لو كنت واحدًا من أولئك الذين باعوا واشتروا في سوق الأسهم الأمريكي على أساس توصيات المحللين في الفترة ما بين أبريل 2000 إلى سبتمبر 2002، لخسرت 47% من رأس مالك!
بعبارة أخرى، يجب أن تعرف أنه على الرغم من أن توصيات المحللين هي الجزء الأكثر استخدامًا في التقارير البحثية الصادرة عن المحللين وشركات الوساطة إلا أنها تعتبر في الوقت نفسه الجزء الأكثر تضليلًا، حيث يؤدي اتباع تلك التوصيات بشكل أعمى إلى نتائج لا تسر عدوًا ولا حبيبًا.
ما سر ندرة التوصية بالبيع؟
هناك ظاهرة في توصيات المحللين وشركات الوساطة لن تخطئها عين صاحب الخبرة منكم، وهي ندرة توصيات البيع أو تخفيض المراكز، في 99% تقريبًا من تلك التقارير ستجد التوصيات ما بين شراء أو احتفاظ أو حتى حياد، نادرًا ما ستجد شركة وساطة تنصحك بشكل مباشر ببيع سهم معين خصوصًا لو كان ذلك السهم من الأسهم الكبيرة في السوق.
ولكن هل هذا منطقي؟ لو أن التقرير الصادر عن شركة الوساطة يغطي 50 سهمًا مثلًا تندرج التوصيات حيالها ما بين شراء واحتفاظ في غياب للتوصية بالبيع، فهذا معناه أن محللي شركة الوساطة مقتنعون بأن الأسهم الخمسين التي يغطيها تقريرهم في طريقها للصعود، ولكن هذا في الحقيقة يستدعي ذات السؤال مرة أخرى: هل هذا منطقي؟ ألا يوجد من بين هذه الأسهم ما يستحق البيع أو ما يتوقع هبوطه؟
إحجام المحلل أو تردده تجاه إصدار التوصية بالبيع ليس أمرًا مستحدثًا أو ظاهرة جديدة بل هو موضوع الساعة في سوق الأسهم منذ عقود، فأحد الأسباب الرئيسية وراء فقاعة الإنترنت التي انفجرت في عام 2000 هو امتناع المحللين عن إصدار أي توصية بالبيع وسيطرة التوصية بالشراء على كل تقاريرهم البحثية تقريبًا.
ولكن لماذا فعل المحللون ذلك؟ أو ما مصلحتهم في إصدار توصية بشراء أسهم شركات لا يمتلكونها؟ هذا السؤال كان محور تحقيق قاده المدعي العام السابق لنيويورك "إليوتسبيتزر"، والذي خلص في ديسمبر 2002 إلى أن إحجام المحللين عن التوصية بالبيع كان أحد الأسباب وراء خسارة المستثمرين لكميات هائلة من المال، مشيرًا إلى أن المحللين أقدموا على ذلك بسبب تورطهم في شكل من أشكال تضارب المصالح.
إن السبب الحقيقي وراء ندرة توصيات البيع، ليس عدم وجود أسهم تستحق البيع وإنما وقوع المحللين العاملين في شركات الوساطة والبنوك الاستثمارية تحت ضغط مؤسسي؛ نتيجة حرص من فوقهم على علاقاته مع عملائه من الشركات الكبيرة في السوق، وهذا في أكثر الأحيان ما يمنع المحللين من إصدار توصية سلبية تجاه الشركات.
سوق الأسهم في جميع أنحاء العالم يعمل ببساطة كالتالي: هناك شركات مدرجة بالسوق وهناك بنوك استثمارية لديها قسمان منفصلان للوساطة والخدمات المصرفية، في مثل هذه الظروف لا يسمح (بشكل غير صريح) لمحللي قسم الوساطة أن يصدروا توصية سلبية عن شركة في السوق لأنهم لو فعلوا ذلك قد يحرمون قسم الخدمات المصرفية في البنك من الأرباح التي قد يحققها نظير خدمات قد يقدمها للشركة صاحبة السهم قيد التوصية.
باختصار إن المحلل على الأغلب سيتردد في إصدار توصية سلبية عن عملاء شركة الوساطة التي يعمل بها، وهذا بلا شك يؤثر على ما يرغب المحلل في نشره في تقريره البحثي عن الشركة محل التقييم، والمشكلة الكبرى هي أن المستثمر الذي لا يدرك هذه الديناميكية سيأخذ التوصية على ظاهرها كما هي، ولن يستوعب مثلًا أن التوصية بالحياد في كثير من الأحيان قد تعني توصية بالبيع، وذلك ببساطة لأن شركة الوساطة أو البنك الاستثماري على الأغلب لن يصدر توصية سلبية، اللهم إلا إذا كانت تجاه عميل غير مهم.
آخر شيء تريده أي شركة وساطة أو بنك استثماري هو أن يخبر أحد المحللين العاملين لديه جمهور المستثمرين بأن الشركة "س" التي تنتمي لقائمة عملائه هي شركة فاشلة مثلاً أو في طريقها للترجع، هذا ببساطة تضارب مصالح واضح وقائم في كل أسواق الأسهم حول العالم، وهذه بالأساس مشكلة هيكلية لا يلام عليها المحللون وحدهم.
سوق الأسهم ليس لهؤلاء
بعيدًا عن ندرة التوصية بالبيع، هناك مشكلة كبيرة أخرى تعاني منها توقعات المحللين في سوق الأسهم وهي أنها في أغلب الأحيان غير صحيحة، ففي كتابه الصادر في عام 2010 تحت عنوان "الكتاب الصغير في الاستثمار السلوكي" يشير "جيمس مونتيه" إلى أن توقعات المحللين للشكل الذي ستكون عليه أرباح الشركات بعد عامين عادة ما تكون خاطئة في 94% من الحالات، حتى في الآفاق الزمنية الأقل، كالاثني عشر شهراً المقبلة مثلاً، نجد أنهم مخطئون في 45% من الحالات تقريباً.
أما الاقتصادي البارز بجامعة برينستون "بيرت ونمالكييل" فقد انتقد ذات مرة توقعات المحللين قائلًا: "إن باستطاعة قرد معصوب العينين تكوين محفظة استثمارية تحقق أداء شبيهاً لتلك التي يكونها الخبراء من المحللين".
وقبل أن يعتقد البعض أن الكلمات السابقة ترمي أو تشير إلى افتقار التقارير البحثية الصادرة عن المحللين وشركات الوساطة وبيوت الخبرة إلى أي أهمية، ينبغي التأكيد على أن هذا ليس المقصود أبدًا، بل على العكس تحتوي تلك التقارير على تحليلات ومعلومات مهمة جدًا ومفيدة للمستثمر، ولكن ليس من بينها توصيات البيع والشراء التي عادة ما تكون في صدر التقرير البحثي.
وهناك نقطة أخرى لا ينتبه إليها كثير من المهتمين بتوصيات التقارير البحثية، وهي أنه حتى لو كانت تلك التوصيات صحيحة فلن يستطيعوا الاستفادة منها بشكل كامل، فبمجرد أن تصدر شركة الأبحاث أو الوساطة توصية بشراء السهم، سيرتفع سعر السهم فورًا ليعكس تلك المعلومة، وساعتها لو قررت اتباع تلك التوصية ستضطر لشراء السهم بسعر أعلى، نفس المعضلة ستواجهها بشكل عكسي في التوصية بالبيع، فحين تحاول بيع هذا السهم لتتخارج منه ستجد سعره قد تراجع بالفعل قبل أن تأخذ أنت أي خطوة.
خلاصة الكلام: إذا دخلت إلى سوق الأسهم وأنت تعتقد أن هناك مَن يمكنه أن يخبرك بشكل صحيح ماذا ومتى تبيع أو تشتري سواء كان هذا من تنتظره أن يخبرك محللًا أو شركة أو واحدًا من عامة الناس، فأنت على الأغلب في السوق الخطأ، لأن الأمر لو كان بتلك السهولة لكان الشعب كله في السوق.
إن الاستثمار بالأسهم حرفة لها أهلها وفنونها، ومن أجل النجاح فيها أنت في حاجة إلى بذل مجهود ذهني وعقلي لا يقل في مشقته عن المجهود البدني الذي يبذله آخرون في وظائفهم التي تطلب كفاحًا بدنيًا، وكذلك إلى أساليب أعقد وأكثر عمقاً من التنفيذ الحرفي لتوصيات المحللين التي ستظل دقتها في محل شك دائمًا.
وبالمناسبة، لا توجد مهمة في الكون كله أسهل من توقع اتجاه السهم في المستقبل والتوصية ببيعه وشرائه على هذا الأساس، فهذه المهارة لن تحتاج منك أكثر من 30 ثانية من أجل إتقانها، احفظ عني العبارة التالية وقلها لأي شخص يسألك عن توقعك لاتجاه سهم معين أو اتجاه السوق بشكل عام:
"السهم "س" في طريقه للصعود، لكن قد تحدث المفاجأة ويتراجع لظروف معينة".. لا يوجد سهم في السوق لا تنطبق عليه هذه العبارة، واللطيف هو أنها ستبقى دائمًا صحيحة من إحدى الجهتين، خذ هذه الصيغة وتلاعب بتنويعاتها كما تشاء، وتأكد أنه بغض النظر عن اتجاه السهم ستبقى في عيون الناس وبالأخص قليلي الخبرة منهم محللًا لا يشق له غبار.
المصادر: أرقام – ذا نيويوركر
كتاب: Ahead of the Market
كتاب: The Little Book of Behavioral Investing
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}