"أعلى مستوى في 29 عاماً".. تكررت هذه العبارة كثيراً في الأيام الماضية لوصف المستوى الذي وصل إليه المؤشر الرئيسي للأسهم اليابانية بدعم حالة الصعود التي تسيطر على الأسواق العالمية مؤخراً.
لكن الواقع أنه من غير المحتمل أن يتجاوز مؤشر "نيكي" الياباني مستواه المسجل في تلك الفترة، والذي كان نتاجا لطفرة تحتفظ بمكانة خاصة في تاريخ الفقاعات المالية حول العالم.
وواصل سوق الأسهم في اليابان مكاسبه الملحوظة خلال الفترة الحالية، مستفيدا من حالة التفاؤل التي سيطرت على الأسواق العالمية مع أنباء اللقاح المنتظر ضد الوباء وفوز "جو بايدن" برئاسة الولايات المتحدة.
وصعد مؤشر "نيكي" لأعلى مستوى منذ نوفمبر عام 1991، بعد أن أنهى تعاملات اليوم عند مستوى تجاوز 25.300 ألف نقطة.
لكن هذا المستوى غير المسبوق منذ ثلاثة عقود تقريباً لمؤشرات الأسهم في اليابان يدفعنا لتذكر ما كان عليه السوق إبان هذه الفترة، وما نتج عن الانهيار الذي لا يُنسى.
سنوات الازدهار والخطر
- بعد الهزيمة المدوية في الحرب العالمية الثانية، اتجهت اليابان لمحاولة تجميع أشلاء إرادتها والتحول لنموذج اقتصادي جديد يعتمد على التصنيع الحديث والتكنولوجيا والتصدير.
- حقق اقتصاد اليابان ما تم اعتباره آنذاك "معجزة اقتصادية" طوال ثلاثة عقود متواصلة، ليتجاوز متوسط النمو نظيره في الاقتصادات الكبرى ويرتفع مستوى المعيشة للمواطنين بشكل ملحوظ ما جعل اليابان أكبر دائن في العالم.
- شهدت اليابان بشكل خاص في ثمانينيات القرن الماضي مزيجا من الطلب المحلي القوي والسياسات الحكومية التحفيزية ومعدلات الفائدة المنخفضة، وسط شعور طاغ بالثقة حيال حتمية استمرار الوضع الجيد للاقتصاد والشركات.
- بدأت مرحلة صعود أسعار الأصول في اليابان منذ عام 1982 قبل أن تتسارع في عامي 1985 و1986، تخللها ركود اقتصادي عابر بسبب ارتفاع قيمة الين طبقاً لاتفاق البلازا بين الولايات المتحدة والدول الكبرى.
- تسارعت عمليات المضاربة الحادة في سوق الأسهم الياباني بدعم شعور الثقة لدى المستثمرين والسياسة النقدية التيسيرية للبنك المركزي وإقبال المصارف على عمليات الإقراض الخطرة مع تزايد وفرة السيولة.
- قفزت الأسهم اليابانية بأكثر من ثلاثة أمثال قيمتها في الفترة بين عامي 1985 وحتى 1989، لتعادل وحدها أكثر من ثلث القيمة السوقية للأسواق العالمية، مع تداولها بمعدل سعر إلى الأرباح أعلى 60 مثلا، مقارنة بمتوسط عالمي يتراوح بين 14 إلى 16.
- تزامنت الفقاعة في سوق الأسهم مع صعود حاد لأسعار العقارات والأراضي في اليابان، حيث شهدت منطقة التسوق "جينزا" في طوكيو ارتفاع سعر المتر المربع إلى 250 ألف دولار، ضمن مدن أخرى شهدت طفرات غير معقولة منها أوساكا وناغويا وغيرها.
- وجهت الشركات تدفقات رؤوس أموالها نحو الأراضي خاصة في وسط طوكيو، والتي شهدت زيادات متسارعة بنسبة 10.4% في عام 1986 ثم 57.5% في العام التالي و22.6% في 1988.
- قفزت قيمة أصول الأراضي في ميزانيات الشركات اليابانية بوتيرة مضاعفة، مع وصول متوسط المتر المربع من مليون ين في يناير 1986 إلى 2.1 مليون في نهاية 1988، بينما شهدت بعض المناطق قفزة تتجاوز 400%.
- استفادت الشركات آنذاك من قفزات أسعار الأراضي من خلال قدرتها على الاقتراض حتى 80% من قيمة هذه الأصول، ما رفع قدرتها التمويلية بشكل كبير.
الانفجار وأخطاء السياسة
- ارتكب بنك اليابان العديد من الأخطاء التي ساهمت في تسارع فقاعة الأصول في البداية، ثم انفجارها بأسوأ طريقة ممكنة لاحقاً.
- تسببت السياسة التيسيرية الحادة للبنك المركزي عبر شروط الإقراض المخففة وزيادة المعروض النقدي في ارتفاع قوي لأسعار الأصول وتزايد التوجه نحو المخاطرة من جانب المستثمرين والشركات وحتى المصارف.
- مع شعور البنك المركزي بالقلق حيال أسعار الأصول الآخذة في الصعود غير المبرر، قرر تقليص المعروض النقدي بشكل حاد في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، ما ساهم في انفجار فقاعة الأصول.
- وصل سوق الأسهم الياباني لذروته في التاسع والعشرين من شهر ديسمبر من عام 1989، ليسجل مؤشر "نيكي" قمة عند 38.916 ألف نقطة، قبل أن يبدأ رحلة الهبوط الحاد.
- وبحلول ديسمبر عام 1990 كانت القيمة السوقية لسوق الأسهم قد انخفضت بأكثر من تريليوني دولار مع انهيار المؤشر لنحو 20 ألف نقطة، قبل أن يتراجع "نيكي" إلى 14 ألف نقطة في أغسطس 1992 فاقداً أكثر من 60% من قيمته مقارنة بذروة الفقاعة.
- مع التراجع الحاد للأصول المالية والحقيقية، استمر البنك المركزي في رفع معدلات الفائدة مع تواصل قلقه بشأن ارتفاع قيمة الأراضي والعقارات في البلاد.
- نجحت سياسة البنك المركزي في وقف صعود أسعار الأراضي، بل حولتها للهبوط الحاد أيضاً بعد فترة قصيرة من انهيار سوق الأسهم، لتنخفض في غضون أعوام قليلة بنحو 80% مقارنة بالقمة المسجلة في عام 1990.
- بعد انهيار فقاعة الأسهم والعقارات، تحول بنك اليابان لخفض معدل الفائدة بشكل كبير، أملاً في إنقاذ الاقتصاد الذي دخل مرحلة ركود مع حدوث أزمتي ائتمان وتعثر للشركات عن سداد الديون، لكن قراره جاء متأخراً للغاية.
سنوات العقد الضائع
- دفع الهبوط الحاد في قيمة الأصول المالية الكثير من الشركات والأفراد لرؤية ميزانياتها العمومية وثرواتها تشهد تراجعاً غير مسبوق.
- تعرضت البنوك اليابانية بشكل خاص لضغوط كبيرة مع فشل الأسر والمؤسسات في سداد ديونهم وبالتالي ارتفاع القروض المعدومة لدى المصارف التجارية التي شهدت انخفاضا لقيمة الأصول التي كانت تمثل ضمانة لعمليات الإقراض.
- قلصت الشركات إنفاقها الاستثماري بالتزامن مع خفض الأسر للنفقات الاستهلاكية، وهو ما تسبب في دخول الاقتصاد في حالة من الجمود مع انكماش الأسعار وإحجام ملحوظ عن الإنفاق.
- تباطأ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في اليابان من متوسط 3.89% في الفترة بين 1980 إلى 1991 لنحو 1.1% بين 1991 و2003، مع الدخول في فترات انكماش متقطعة ومتكررة.
- أزمة اقتصاد اليابان التي اعتاد الخبراء على تسميتها "العقد الضائع" ازدادت حدة مع ظهور منافسين جدد للمنتجات اليابانية في الأسواق الخارجية، خاصة من الصين وكوريا الجنوبية والنمور الآسيوية التي قدمت سلعا أقل تكلفة وبنفس الجودة.
- ظهر أيضاً أثر ارتفاع متوسط أعمار السكان في اليابان من خلال تراجع متوسط ساعات العمل والإنتاجية بشكل حاد مقارنة بالدول الصناعية الكبرى.
- ورغم التعافي النسبي للاقتصاد الياباني في العقد الماضي بدعم التدابير التحفيزية القوية من جانب السياسة المالية ومعدلات الفائدة المنخفضة تاريخياً، فإن آثار التغيرات الديموغرافية المتمثلة في ضعف الطلب الاستهلاكي لا تزال تخيم على الاقتصاد.
- ولكن بعد مرور نحو 31 عاماً على القمة التي سجلها "نيكي"، فإن سوق الأسهم لم ينجح حتى في الاقتراب مجدداً من مستواه القياسي السابق، وربما قد لا يفعل ذلك أبداً.
المصادر: أرقام – جابان توداي – نيكي آسيا – الجارديان – هارفارد بيزنس ريفيو
دراسة: The Asset Price Bubble and Monetary Policy
دراسة: The 1990s in Japan: A Lost Decade
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}