قد يبدو هذا المبنى ذو الواجهة البيضاء المكون من سبعة طوابق متناغما مع المباني المجاورة في منطقة بيوبورغ في قلب العاصمة الفرنسية باريس، التي تشتهر بمبانيها المبهرة. فعلى بعد خطوات قليلة يقع مركز بومبيدو الفاخر، الذي يجسد الطراز المعماري للقرن العشرين ويضم متحفا معاصرا.
لكن هذا المبنى الأبيض في منطقة بيوبورغ رغم أنه قد يبدو متواضعا مقارنة بهذه المباني المميزة، فقد يكون تصميمه من الداخل أكثر غرابة منها. فمنذ عام 2015، يستمد هذا المبنى الطاقة اللازمة للتدفئة من الحرارة المتولدة من حركة رواد محطة مترو الأنفاق المجاورة.
وتقول جينيفيف ليتوت، الخبيرة الاستراتيجية في مجال الطاقة والمناخ بشركة "باريس هابيتات" للإسكان الاجتماعي، التي صممت نظام استرداد الحرارة المهدرة في المبنى، إن درجة الحرارة داخل الأنفاق أعلى منها في الخارج بنحو 10 درجات. ومصدر هذه الحرارة أجسام البشر الذين يتحركون داخل الأنفاق بالإضافة إلى الحرارة التي تولدها القطارات.
وتقول ليتوت: "ثمة درج يربط بين الدور السفلي في المبنى وبين الأنفاق. وجُهز المبنى بمعدات لاستخلاص الهواء الساخن من الأنفاق عبر هذا الممر، ثم يمر الهواء الساخن عبر مبادل حراري لينتج في النهاية ماء ساخنا يُستخدم في تدفئة المساحات داخل المبنى".
وتوفر هذه الحرارة المهدرة ما يصل إلى 35 في المئة من الحرارة التي يحتاجها مبنى بيوبورغ لتدفئة 20 شقة بالإضافة إلى المتاجر أسفل المبنى. وتقول ليتوت إن استخدام شبكات التدفئة المركزية لتوزيع الحرارة في المناطق السكنية يسهم أيضا في خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
وبخلاف المشروع الفرنسي، طُورت مشروعات مبتكرة ذات تصميمات موفرة للطاقة حول العالم للحد من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري.
وتستهلك المباني والإنشاءات أكثر من ثلث إجمالي الاستهلاك النهائي للطاقة في العالم وتسهم بنحو 40 في المئة من إجمالي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري ذات الصلة بالطاقة. وبحسب تقرير وكالة الطاقة الدولية، فإن عُشر الطاقة المستخدمة في التدفئة فقط يستمد من مصادر متجددة.
ولهذا فإن فرص خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري الناتجة عن التدفئة هائلة، خاصة أن تدفئة المنازل وغيرها من المباني تستحوذ على نحو نصف إجمالي الاستهلاك العالمي للطاقة.
مستقبل التدفئة النظيفة
ومن المعلوم أن الجسم البشري يعد واحدا من أكثر مصادر الحرارة وفرة داخل المباني. ولهذا تتيح المباني التي تسع أعدادا كبيرة من البشر، فرصا هائلة للاستفادة من هذا الهواء الذي يدفئه البشر في الأماكن المغلقة.
واتجهت أنظار الكثير من العلماء لمحطات القطار المزدحمة لإجراء تجارب عن سبل تسخير الحرارة المتولدة من الجسم البشري لتوليد الطاقة.
واشتهرت السويد بتجاربها الرائدة في مجال الحصول على الحرارة من الجسم البشري في محطة ستوكهولم المركزية التي كان يرتادها نحو 250 ألف شخص يوميا، قبل تفشي وباء كورونا. واستخدمت هذه الحرارة في تدفئة مبنى من 17 طابقا يطلق عليه "كونغزبروهوست" بالقرب من المحطة. ونجحت في تخفيض استهلاك المبنى من الطاقة بما يصل إلى 10 في المئة.
ويقول روجر بيورك، المدير الفني بشركة "فولكسام"، التي تمتلك المبنى: "نحن نستخدم مياه البحر لتبريد نظام التهوية بالمبنى ومحطة ستوكهولم المركزية. وتساعد حرارة الجسم في الداخل في تدفئة المياه، التي نعيد تدويرها لتوليد الحرارة في شبكة التدفئة المركزية بالمنطقة".
وبخلاف الجسم البشري، تستمد شبكة التدفئة المركزية الحرارة من عدة مصادر مستدامة أخرى، مثل الطاقة الحرارية الأرضية، وحرق الكتلة الحيوية غير المعالجة، مثل النفايات والخشب والقش ومخلفات تقليم الأشجار وما إلى ذلك، فضلا عن الحرارة الفائضة من المصانع. وتُوزع الحرارة المتولدة على المنازل والمباني في البلاد عبر أنابيب تحت الأرض.
وتقول أولا جانسن، كبيرة المحاضرين بقسم خدمات البناء بجامعة لوند، إن المضخات الحرارية وأنظمة استرداد الحرارة المهدرة في شبكات التدفئة المركزية تمكنت من تلبية نصف احتياجات السويد من الطاقة اللازمة للتدفئة في القطاع السكني في عام 2017.
وتقول جانسن إن أزمة الطاقة في السبعينيات من القرن الماضي- عندما أدى قرار الدول العربية المنتجة للنفظ بحظر تصدير النفط للولايات المتحدة وهولندا بسبب الحروب في الشرق الأوسط إلى الارتفاع الفلكي في أسعار النفط- دفعت السويد للبحث عن حلول مبتكرة لتوفير بدائل للمحروقات. وتعد شبكات التدفئة في الضواحي والمناطق السكنية جزءا أساسيا من خطط التطوير.
وفي ولاية مينيسوتا الأمريكية، يستمد أحد مراكز التسوق جزءا من الحرارة اللازمة لتدفئة المبنى من الجسم البشري. ومنذ افتتاحه في عام 1991، لم يكن مركز التسوق "مول أوف أمريكا" مجهزا بأنظمة للتدفئة المركزية. وكان هذا القرار جريئا، نظرا لأن درجة الحرارة في الولاية قد تصل في فصل الشتاء إلى 15.5 درجة تحت الصفر.
ويستمد المركز في المقابل الحرارة من أجسام زواره الذين يتجاوز عددهم 109 ألف شخص يوميا، والنوافذ السطحية التي تمتد على مساحة ثمانية فدادين تقريبا، ومن آلاف المصابيح والأجهزة في المبنى، لتدفئة المبنى في فصل الشتاء.
يقول دان جاسبر، نائب رئيس الاتصالات بمركز التسوق: "يضم المبنى ما يتراوح بين 8,000 و12,000 موظفا، يبدأ الكثير منهم العمل في الصباح الباكر. ومع حلول الساعة السادسة أو الثامنة صباحا، عندما يكون معظم هؤلاء الموظفين داخل المبنى، تصبح درجة حرارة المبنى معتدلة".
لكن كفاءة التصميمات التي تعتمد على حجز الحرارة المتولدة من مصادر ثانوية، قد توضع على المحك كلما زادت احتياجات المبنى للطاقة. فالمستشفيات على سبيل المثال، تعد من المباني التي يصعب فيها تنظيم الحرارة، كونها تستقبل أعدادا كبيرة من الناس وتحوي أجهزة منتجة للحرارة تستهلك كميات ضخمة من الطاقة. لكن إذا وُزعت هذه الحرارة بدقة، يمكن ضمان الحفاظ على درجة الحرارة الملائمة والآمنة داخل المبني، ولا سيما في غرف المرضى.
وتبنى مستشفى من ستة طوابق في فرانكفورت هذه الطريقة في توظيف الحرارة داخل المبنى في التدفئة، إذ جهز مستشفى "كلينيكوم فرانكفورت" بأكثر من 1000 نافذة من الزجاج الثلاثي. ويفوق استهلاك المستشفيات، التي تتضمن عادة نحو 1000 سرير، استهلاك المباني السكنية ذات نفس المساحة من الطاقة، بنحو ثلاثة أو أربعة أضعاف، بسبب المعدات الموجودة في المستشفى.
وأسهم العزل الحراري للمستشفى في الحفاظ على درجة الحرارة داخل غرف المرضى عند 22 درجة مئوية. ويمنع الزجاج الثلاثي الهواء البارد من الدخول إلى المبنى، ومن ثم يقلل الطلب على الطاقة لتدفئته. ويستخدم المستشفى نظام تهوية يسخن الهواء الخارجي قبل الدخول إلى الغرف ومنع تسرب الروائح الكريهة.
منازل دافئة
قد تستفيد أيضا المنازل التي لا يعيش فيها إلا القليل من السكان، من الحرارة المستمدة من الجسم. وتعود تصميمات المباني التي تعتمد على الحرارة المتولدة من الجسم إلى عقود مضت.
ففي عام 1990، شيد المهندس المعماري الألماني وولفغانغ فيست أول مبنى من هذا النوع الموفر للطاقة للحد من إهدار الحرارة.
ويقول فيست: "في أواخر السبعينيات من القرن الماضي اكتشفنا أن تدفئة المباني تستهلك أكثر من ثلث إجمالي الطاقة المستهلكة في أوروبا. وأدركنا في قسم الفيزياء، حيث كنت أجري أبحاثي، أن عزل المباني سيوفر كل هذه الطاقة تقريبا".
وتعتمد المباني المصممة بهذا الشكل على العزل الحراري، مثل وجود جدران مانعة لتسرب الهواء وزجاج مزدوج أو ثلاثي ونظام تهوية يتيح استرداد الحرارة ويمنع تكوّن "جسر حراري".
ومن خلال الحفاظ على الحرارة في الداخل، سيقل الطلب على الطاقة، وقد يستمد المبنى الحرارة من أشعة الشمس أو من الجسم البشري أو الأجهزة الكهربائية بداخله.
ويقول فيست إن أحد زملائه تندر ذات مرة على دور حرارة الجسم البشري في التدفئة قائلا: "إن الطقس سيكون باردا في عطلة نهاية الأسبوع، فهل ندعو بعض الأصدقاء لتدفئة المنزل؟"
وذكر معهد يعنى بدراسة المنازل الموفرة للطاقة - والتي يطلق عليها اسم "المنازل السالبة" - الذي أسسه فيست، أن المباني الموفرة للطاقة تستهلك طاقة حرارية أقل بنحو 90 في المئة مقارنة بالمنازل التقليدية وأقل بنسبة 75 في المئة من المباني الجديدة.
وتبنت دول عديدة التصميمات الموفرة للطاقة. إذ سجلت في المعهد 25,000 وحدة سكنية موفرة للطاقة حول العالم.
وتقول جانسن: "الغرض من تلك المنازل هو تحقيق درجات الحرارة المناسبة في الداخل على مدار العام، وإلا لن تكون موفرة للطاقة. فهي أشبه بقارورة حفظ الحرارة، أي أن كفاءتها في حفظ الحرارة في الداخل لا تقل عن كفاءتها في منع الحرارة من الدخول".
تصميم يعتمد على البشر
رغم أن الجسم البشري يعد مصدرا مبتكرا ومستداما للحرارة، لا يمكن استخدامه على نطاق واسع.
وترى ليتوت أن التحدي الأكبر الذي تواجهه المشروعات التي تسعى لاستغلال الحرارة من البنى التحتية كمحطات القطارات، يتمثل في العثور على الموقع المناسب لتنفيذها. وتقول ليتوت: "إن هذه المشروعات تناسب المباني الجديدة المجاورة لخطوط مترو الأنفاق، التي قد تصمم من البداية للاستفادة من نظام استرداد الحرارة في الأنفاق".
ولم تعثر شركتها حتى الآن على فرصة مناسبة لتنفيذ مشروع مماثل في فرنسا.
ويقول ليون غليكسمان، أستاذ تكنولوجيا البناء والهندسة الميكانيكية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: "لا أعتقد أن الحرارة المتولدة من الجسم البشري قد تكفي لتدفئة مبنى بأكمله، بل يجب أن تدعمها مصادر أخرى للحرارة، مثل الأجهزة الكهربائية والطهي والثلاجات وما إلى ذلك".
ولا تلقى التصميمات الموفرة للطاقة إقبالا في البلدان التي يقل فيها مستوى الوعي بالمخاطر البيئية. ويقول غليكسمان: "إن بعض الناس يحرصون بشدة على ترشيد استهلاك الطاقة، وبعضهم يستهلك كميات هائلة من الطاقة. ولو صممنا مبان موفرة للطاقة، لكن سكانها لا يعرفون كيفية الاستفادة منها في توفير الطاقة، فلن تحقق هذه المباني الغاية منها؟"
ويقترح غليكسمان أن تضع الحكومات معايير لتوفير استهلاك الطاقة وأن تبني نماذج موفرة للطاقة وبأسعار ميسرة وتخضعها للمراقبة لإثبات مدى كفاءتها في توفير الطاقة.
لكن جانسن ترى أن مستقبل هذا النوع من الطاقة لا يزال واعدا، وتقول: "ربما لا تلبي الحرارة المتولدة من الجسم البشري إجمالي الطلب على الطاقة لتدفئة المباني، لكنها تسهم بحصة كبيرة في تدفئة المنازل، وتستخدم أيضا في المبادلات الحرارية لتسخين الهواء قبل دخول المبنى أو لإعادة استخدامه في المضخات الحرارية".
ربما نكون قد اعتدنا أن ننظر للمباني بوصفها مساحات مصممة لتناسب البشر، لكن عندما يصبح البشر جزءا من التصميم، ستكون المباني أقل إهدارا للموارد وأكثر راحة.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}