بالنسبة للكثيرين، لا يمكن الحديث عن يوم التاسع عشر من شهر أكتوبر عام 1987 بدون تذكر حدث لا يُنسى.. "الإثنين الأسود".
إنه اليوم المُسجل في التاريخ كأكبر هبوط يومي بالنسبة المئوية منذ تدشين مؤشر "داو جونز" الأمريكي.
ويظل هذا اليوم ذكرى قاتمة للآلاف الذين فقدوا أموالهم أو وظائفهم بسبب هذا الانهيار، لكن بالنسبة لرجل واحد كان هذا اليوم بمثابة حدث سعيد.
الرجل الذي توقع الكارثة
يتكئ على كرسيه مبتسماً للكاميرا وهو يقول بثقة: "سوق الأسهم سوف ينهار، سيحدث هبوط خلال الـ10 إلى 20 شهراً المقبلة، سيكون الأمر مثل الزلزال".
قال "بول تيودور جونز" هذه الكلمات بثقة خلال فيلم وثائقي يحمل اسم "التاجر" تم تصويره في عام 1986، لكن ما لم يتوقعه معظم المستثمرين أنه بعد أقل من عام واحد ستتحقق هذه النبوءة بشكل حرفي.
وعندما توقع "جونز" الهبوط الحاد في "وول ستريت" كان لا يزال في بداية حياته المهنية، بينما كان سوق الأسهم في قمة ارتفاعه.
في 1976 حصل "جونز" على البكالوريوس في الاقتصاد من جامعة فيرجينيا، قبل أن يلتحق في نفس العام ببورصة القطن في نيويورك ليصبح وسيطاً لدى شركة تعمل في تداول السلع.
ومنذ البداية كان الشاب واثقاً للغاية في قدرته على توقع حركة السوق خاصة مع سهولة وسرعة نجاحه في عمله الجديد، وهو ما كاد يكلفه الكثير.
تحولت ثقة "جونز" سريعاً إلى حالة من الغرور، ليدخل في عام 1979 في عملية تداول في العقود الآجلة للقطن كلفته خسارة 70% من أموال عملائه.
تضررت نفسية "جونز" بشكل كبير بعد هذه الخسارة، لدرجة دفعته للتفكير جدياً في الانسحاب تماماً من عالم البورصة.
بشكل ما قرر الرجل الاستمرار في العمل، لكن بعد أن تركت هذه الضربة أثراً بالغاً في ذاكرته وجعلته يدرك جيداً أن السوق لا يتساهل مع العجرفة.
في عام 1980 قرر المستثمر الشاب التحول لافتتاح شركته الخاصة لإدارة الأصول "تيودور إنفيسمنت" والتي نجحت في تحقيق عوائد كبيرة للمستثمرين اعتماداً على استراتيجية معلمه الأول "إيلي توليس" بالاستثمار في مراكز مالية محدودة وليست كبيرة حتى يتمكن من الخروج بسرعة وقتما يرغب.
ظل درس أن امتلاك مراكز استثمارية كبيرة ليس بالضرورة العامل الأهم للربح عالقاً في ذهن "جونز" لفترة طويلة وداعماً لفلسفته التي حققت أرباحاً ملحوظة لعملاء شركته.
لكن الربح الحقيقي كان يختبئ في طيات الأزمة التي ستظل محفورة في تاريخ "وول ستريت" لسنوات طويلة.
كيف فعلها؟
كان سوق الأسهم الأمريكي يمر بحالة صعود مستمرة منذ عام 1982، حيث ارتفع بنحو ثلاثة أمثال قيمته خلال 5 سنوات فحسب.
وخلال أول سبعة أشهر من عام 1987 كانت مكاسب مؤشر "داو جونز" تقارب 44%، ليبدأ الحديث الخافت عن شبح الفقاعة.
كان "جونز" يرى أن السوق مبالغ في قيمته بشكل كبير، كما أنه لاحظ تشابهاً واضحاً بين الرسم البياني لصعود عام 1929 والذي انتهى بانهيار حاد ووقوع الكساد العظيم وبين الارتفاع المسجل آنذاك.
وباعتماد الرجل على نظرية موجات إليوت الشهيرة في التحليل الفني لتوقع حركة السوق وجد أن القمتين متشابهتان للغاية رغم حقيقة الفارق الزمني بينهما.
قرر "جونز" الوثوق في حدسه والمراهنة على هبوط سوق الأسهم باستخدام عمليات الاقتراض بغرض البيع أو "الشورت سيلينج".
وبالفعل في منتصف شهر أكتوبر بدأ السوق يترنح بخسائر يومية ملحوظة، لكن الهبوط الحقيقي والتاريخي كان مع بداية جلسة التاسع عشر من أكتوبر والتي انتهت بتراجع غير مسبوق لمؤشر "داو جونز" بلغ 22.6%.
لم تقتصر موجة الذعر على الأسهم الأمريكية فحسب، وإنما امتدت لمعظم الأسواق العالمية ووصل الأمر في بعض الدول مثل نيوزيلندا لتراجع بلغت نسبته 60% تقريباً.
خلاف ورابح وحيد
بالطبع يرى الكثيرون أن أسباب انهيار 1987 لم تقتصر على المبالغة في تقييم السوق فحسب، وإنما ساهمت العديد من الأسباب الاقتصادية والسياسية وحتى الهيكلية في وقوع الانخفاض الحاد.
فالولايات المتحدة كانت تعقد اتفاقات مع الدول الكبرى من أجل خفض قيمة الدولار لدعم جاذبية صادراتها ما شكّل مقامرة كبيرة آنذاك بالنسبة للكثير من المتابعين خاصة في الوقت الذي يرتفع فيه العجز التجاري.
كما أن سنوات من النمو الاقتصادي القوي دفعت معدل التضخم للتسارع مجدداً ومعه مخاوف تكرار شبح الركود التضخمي.
وعلى صعيد هيكل السوق نفسه، كان أحد العيوب القاتلة آنذاك يتمثل في السماح بتحرك الأسعار هبوطاً وصعوداً بدون حد أقصى، وهو ما ساهم في استمرار وتغول سيكولوجية الخوف بلا رقيب.
ويقول "جونز" بعد سنوات من الانهيار إن "الإثنين الأسود" كان حادثاً يستعد للوقوع في أي وقت؛ بسبب هيكل السوق الذي لم يتضمن حدًا أقصى للهبوط بالنسبة للعقود الآجلة في الأسواق المالية، على عكس ما شهده طوال عمله في تجارة السلع.
بعد هذا الانهيار تم تغيير قواعد التداول ليتم وقف التعاملات في حال هبوط "ستاندرد آند بورز 500" مثلاً بنسبة 7% ثم 13% وأخيراً 20% من أجل منح المستثمرين فرصة للتفكير العقلاني وإعادة تقييم الموقف.
ولحسن الحظ لم يتسبب الانهيار في أزمة اقتصادية أو إفلاس واسع النطاق للشركات، بل تمكن السوق من استعادة كل خسائره المسجلة في ذلك اليوم في غضون أقل من عامين فحسب.
ورغم الجدال الذي استمر طويلاً حول أسباب انهيار "الإثنين الأسود" وسواء كان هبوطاً حقيقياً أم مدفوعاً بأسباب نفسية فحسب، فإنه بالنسبة لـ"جونز" لم تكن الأسباب مهمة بقدر أهمية النتائج.
وبينما دمّر هذا اليوم الحياة المهنية للكثير من الأشخاص، فإنه تسبب في بناء سمعة "تيودور" وشركته ليصبح أحد أشهر المستثمرين وأكثرهم تقديراً من الجميع.
ربح "جونز" نحو 100 مليون دولار في عام 1987، كما أدر على عملاء شركته عائداً يبلغ 62% في شهر الانهيار وحده.
ولا يزال "بول تيودور جونز" في عامه الخامس والستين يدير شركته الاستثمارية ويمتلك ثروة تُقدر بـ5.8 مليار دولار، لكن يظل توقعه لانهيار "الإثنين الأسود" الحدث الأهم والأشهر في تاريخه.
المصادر: أرقام – موقع تاريخ الاحتياطي الفيدرالي - نيويورك تايمز – بيزنس إنسايدر – ياهو فاينانس - فوربس
كتاب: The Greatest Trades of All Time
وثائقي: Paul Tudor Jones Documentary on Trading
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}