"لقد مال الصاري الرئيسي على جنب السفينة وتحطم الدقل، ولم يبقَ هناك شراع ولا كابينة... هنا اقتحمتني فكرة ارتعدت لها فرائصي: هل يغادر القبطان سفينته حين تغرق، أم يُغرق نفسه معها ويموت في عناق أبدي مع صواريها!" ... "جاك لندن" في روايته الشهيرة "ذئب البحر" (1904).
هناك تقليد بحري شهير يقول "القطبان يغرق مع سفينته" وذلك في إشارة إلى أن قبطان السفينة يتحمل المسؤولية الكاملة عن أمان وسلامة كل من على متنها، وأنه في حالة تعرض السفينة لخطر الغرق لا يجب أن يغادرها أبدًا قبل أن ينقذ أولًا جميع من على متنها أو يموت وهو يحاول.
حظي هذا التقليد بشهرة واسعة عقب حادثة غرق سفينة "تيتانيك" في أبريل من عام 1912 والتي كان من بين ضحاياها قبطان السفينة "إدوارد سميث" الذي رفض مغادرتها بينما لا يزال هناك المئات من الركاب عالقين على متنها في وسط المحيط، ليستقر جسده في النهاية مع سفينته في قاع الأطلسي.
بنفس الطريقة ولكن بدوافع مختلفة، يصر أغلب مستثمرو سوق الأسهم على عدم مغادرة سفنهم الغارقة ويأبون إلا أن يهبطوا معها إلى القاع! والمفارقة هي أنه بينما يشار إلى هذا التقليد في عالم البحار باعتباره تصرفًا نبيلًا وشجاعًا، يكشف ذات التصرف في سياق الاستثمار بسوق الأسهم عن جبن وضيق أفق صاحبه.
الهروب ممّا لا مفر منه
ربما لم يعد هناك جدال كبير حول حقيقة أن كره البشر بشكل عام للخسارة أكبر بكثير من حبهم للمكسب. في الواقع، تشير دراسات عديدة في مجال التمويل السلوكي إلى أن الألم النفسي المرتبط بالخسارة أقوى بنحو مرتين من شعور الفرح المصاحب للمكسب.
وفي الحقيقة، إن تصميم المستثمر على الغرق مع سفينته ينبع بالأساس من كرهه الشديد لألم الخسارة. من المفترض أن كل من وطأت قدماه سوق الأسهم يدرك أن قراراته الاستثمارية لن تكون بالضرورة كلها صائبة. فهناك أسهم ستحقق له أرباحًا وأخرى ستذيقه مرارة الخسارة.
ورغم ذلك لا يتعامل كثير من مستثمري سوق الأسهم مع أسهمهم الخاسرة بحكمة، بل يخدعون أنفسهم بأمل زائف بأن ترتد في الاتجاه المعاكس، ويصرون على الاحتفاظ بها رغم تدهور أساسياتها.
ولكن ما لا يدركه هؤلاء هو أن تمسكهم بالسهم رغم تراجعه لا ينبع من إيمانهم بجودته وإنما من رغبتهم في تجنب الشعور بألم الخسارة والتي ستصبح خسارة حقيقية بمجرد تخليهم عن السهم. وهكذا يماطلون ويستمرون في الاحتفاظ بالسهم الذي ربما يستمر في التراجع حتى يقترب من القاع.
لغز زر "الغفوة"
الطريف هو أن هذا السلوك يشبه سلوكاً آخر يفعله غالبية الناس كل صباح تقريبًا، وذلك حين يضغطون على زر الغفوة في كل مرة يدق فيها المنبه. في الطقس البارد يصعب على أغلبنا مغادرة دفء السرير للذهاب إلى العمل. وهنا يمنحنا زر الغفوة القدرة على تأجيل هذه الخطوة. ولكن في النهاية ومهما أجلنا سنضطر إلى مغادرة دفء السرير، غير أن الفارق في هذه الحالة هو أننا ربما تأخرنا على العمل.
وبالمثل، في بعض الأحيان تظهر للمستثمر شواهد وأدلة توضح له أنه ليس من الحكمة أن يستمر في الاحتفاظ بسهم معين، ولكنه في أغلب الأوقات يفضل الضغط على زر الغفوة، معتقدًا أنه بذلك يتجنب الخسارة غير أن كل ما فعله في الحقيقة هو تأجيلها إلى يوم آخر قد تزداد فيها سوءًا.
الإصرار على التمسك بالسهم رغم تراجعه قد يكون ذكاء وقد يكون غباء منقطع النظير. كيف يعرف المستثمر ما إذا كان يجب عليه الاحتفاظ بالسهم أم التخلص منه والقفز من السفينة قبل فوات الأوان؟ الفيصل هو حالة الأساسيات. فإذا كان السهم المتراجع لم يطرأ أي جديد على أساسياته تبرر هذا التراجع فربما يجدر بالمستثمر الاحتفاظ به لأنه على الأغلب سيرتد إلى الأعلى مرة أخرى.
أما إذا كانت أساسيات السهم – وهي ما يستمد منها قيمته بشكل رئيسي – آخذة في التدهور فمن غير الحكمة أن يحتفظ به المستثمر. لكن رغم منطقية العبارات السابقة إلا أنها تظل في النهاية مجرد كلام، وكما يقولون: الكلام أسهل من الفعل.
للأسف يفضل كثير من المستثمرين الاحتفاظ بالسهم بغض النظر عن أي شيء أملًا منهم في أن يتمكن السهم من الارتداد لأعلى في يوم من الأيام. وهكذا يظلون ممسكين بتلابيب أسهمهم حتى يستقروا معها في القاع.
خسارة مضاعفة!
من بين الأمور التي تصعب على المستثمر فكرة التخلص من السهم السيئ المتراجع هو أن قيامه بالتخلي عنه بالسعر المتداول به في السوق في تلك اللحظة سيتسبب في خسارته لجزء كبير من رأسماله المبدئي بذلك السهم. ولكن ما يفشل هذا الرجل الطيب في إدراكه هو أن هذا الجزء الذي سيسترده من رأسماله أفضل من خسارته كل شيء في وقت لاحق.
وما يجعل خسارة المستثمر مضاعفة في هذه الحالة، هو خسارته أيضًا للفرصة البديلة بسبب جبنه وتخاذله. فالأموال التي تتركها عالقة في سهم متراجع يتسبب في تآكل قيمتها يومًا بعد يوم بإمكانك سحبها وضخها في خيارات استثمارية أفضل تعظم من رأس مالك.
أخيرًا، يجب أن تعلم أن جميع مستثمري سوق الأسهم بمعنى الجميع يذوقون باستمرار مرارة الخسارة، غير أن ما يميز المستثمر الناجح عن غيره هو كيفية التعامل مع هذه الخسائر. فالمستثمر الذكي يعلم أن الخسارة ليست شرًا مطلقًا بل هي جزء من اللعبة، وقد تعلمه خسارة واحدة ما لا يمكن أن يتعلمه من ألف مكسب.
سوق الأسهم هو أشبه ما يكون بالبحر العاصف متلاطم الأمواج الذي تسير على سطحه مئات السفن. وبينما لا يجب أن يقفز الركاب من أي سفينة تهزها أمواج البحر العالية، فليس من الحكمة أيضًا أن يصرون على البقاء في السفينة بعد أن مال الصاري وتحطم الدقل وسقط الشراع.
أنت أذكى من أن تذهب مع السفينة إلى القاع.
المصادر: أرقام – نيويورك تايمز
دراسة: Prospect Theory: An Analysis of Decision under Risk
كتاب: MarketPsych: How to Manage Fear and Build Your Investor Identity
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}