"يموت الجبناء مرات عديدة قبل أن يأتي أجلهم، أما الشجاع فلا يموت سوى مرة واحدة".. هكذا وصف الشاعر والكاتب المسرحي الإنجليزي "ويليام شكسبير" في مسرحيته الشهيرة "يوليوس قيصر" كيف يمكن للخوف أن يؤثر على البشر وخصوصًا على ضعيفي القلب منهم الذين يخشون الكثير، ويقض المجهول مضجعهم.
حالة من الذعر سيطرت ومازالت على العالم أجمع من شرقه إلى غربه منذ ظهور فيروس كورونا المستجد في الصين الذي تمكن خلال ستة أشهر من قتل ما يزيد على 500 ألف إنسان، أغلقت المصانع وعلقت حركة الطيران وجلس الناس في بيوتهم خشية على أنفسهم منه، ولا يمكن لأي شخص أن يقلل من حجم التهديد الذي يشكله الفيروس التاجي، ولكن..
لو أن هناك شيئًا واضحًا للعيان فهو أن الكثير من الناس وفي القلب منهم مستثمرو سوق الأسهم يبالغون في خوفهم من المستقبل في ظل تداعيات فيروس كورونا، ولديهم إحساس مبالغ فيه بالخطر، وهذا في الحقيقة قد يكون نتاج تحيز إدراكي أطلق عليه أستاذ القانون الأمريكي "كاس سونستين" اسم "Neglect of probability" أو "تجاهل الاحتمالية".
هذا التحيز الإدراكي يقودنا بشكل أو بآخر إلى؛ إما إلى تجاهل المخاطر ضعيفة الاحتمال بشكل تام، وإما إلى المبالغة فيها والخوف والذعر منها بشكل لا يتناسب أبدًا مع احتمالية وقوعها، على سبيل المثال، لو أن احتمالية انتهاء حدث معين بنتيجة إيجابية تبلغ 90%، فغالبًا سيركز البشر بشكل أكبر على نسبة الـ10% التي تعبر عن احتمالية انتهاء الحدث بنتيجة سلبية، وذلك في انتهاك واضح للقواعد المعيارية لصنع القرار.
الفارق بين 1% و99%
في إطار دراسة نشرت في عام 2006 تحت عنوان "المال والقبلات والصدمات الكهربائية: حول علم النفس العاطفي للمخاطرة" أجرى باحثان من جامعة شيكاغو تجربة قاما خلالها بسؤال مجموعة من الطلاب حول المبلغ الذين هم على استعداد لدفعه مقابل تجنب احتمال قدره 1% بأن يتعرضوا لصدمة كهربائية سريعة ومؤلمة ولكن غير خطيرة.
وبالتوازي، قام الباحثان بسؤال مجموعة أخرى من الطلاب حول المبلغ الذي سيدفعونه مقابل تجنب احتمال قدره 99% بأن يتعرضوا لنفس الصدمة الكهربائية، المنطق يقول إن أولئك الذين لا يزيد احتمال تعرضهم للصدمة على 1% سيدفعون أقل بكثير من نظرائهم الذين يبلغ احتمال تعرضهم لذات الصدمة 99%، لأن هناك فارقاً هائلاً في احتمالية الخطر الذي يهدد الجانبين.
ولكن نتيجة الدراسة كانت مدهشة إلى حد كبير ولم تعكس هذا الفارق الضخم في احتمالية الخطر؛ فقد بلغ متوسط المبلغ الذي عرضه الأشخاص الذين لا يزيد احتمال تعرضهم للصدمة الكهربائية على 1% نحو 7 دولارات، وهو ما يقل بثلاثة دولارات فقط عن متوسط المبلغ الذي أبدى نظراؤهم الذين يبلغ احتمال تعرضهم للصدمة 99%.
يشير الباحثان إلى أن هذا التقارب الكبير وغير المنطقي في متوسط المبالغ المدفوعة من الجانبين هو في الحقيقة نتاج مبالغة المجموعة الأولى في تقدير الخطر الذي تشكله الصدمة عليها بشكل لا يتناسب مع احتمالية وقوعها التي لا تتجاوز 1%، وذلك لأن خوفها من الصدمة الكهربائية جعلها تتجاهل قيمة الاحتمال أثناء اتخاذ القرار.
ما علاقة ذلك بمستثمري سوق الأسهم؟
خوفًا من مخاطر معينة سواء حقيقية أو متصورة، عادة ما يسارع كثير من مستثمري سوق الأسهم إلى بيع كميات كبيرة من حيازتهم، وذلك بغض النظر عن احتمالية وقوع تلك المخاطر، وهو ما يحدث غالبًا تحت تأثير التغطية الإعلامية الواسعة لأحداث وقضايا معينة.
والمشكلة هي إنه حتى لو كان المستثمر ذاته قادرًا على التحكم في نفسه ووضع المخاطر في حيزها المناسب فإنه ليس لديه القدرة على الحيلولة دون سيطرة الذعر على جمهور المتداولين والذين يحركون السوق في النهاية بسلوكهم الجمعي، وقد تنهار مقاومة المستثمر ويضطر في النهاية تحت وطأة الذعر المنتشرة في السوق أن يتخلى عن خططه ويتصرف كما يتصرف الجميع حتى لا يفقد الأمان الذي يشعر به كل من ينضم إلى الحشود.
من بين التحيزات الإدراكية التي يقع تحت تأثيرها كثير من الناس خلال الفترة الأخيرة ما يسمى بـ"تأثير التأطير" (Framing effect) والذي يفسّر سبب تفاعل الناس مع خيارات وأحداث معينة بطرق مختلفة اعتمادًا على الكيفية التي يتم بها عرض تلك الخيارات والأحداث. هذا التأثير يمكن ملاحظته بشكل لا تخطئه عين في تغطية كل وسائل الإعلام للأخبار المتعلقة بفيروس كورونا.
فكر للحظة في الكيفية التي يتم بها عرض الخبر التالي على سبيل المثال، تبلغ نسبة المصابين بفيروس كورونا في ألمانيا حالياً 0.002%. وهذه معلومة صحيحة فعلًا، ولكن من الممكن تقديمها أو تأطيرها بطرق مختلفة منها مثلًا: 99.998% من سكان ألمانيا لم يصابوا بفيروس كورونا، أو تأكدت إصابة 195 ألفًا فقط من إجمالي 83 مليونًا يعيشون في ألمانيا بفيروس كورونا.
ولكن للأسف، تدرك وسائل الإعلام أن أغلبنا مبرمج على التركيز على الرسائل السلبية البارزة، ولهذا تفضل عرض وتأطير المعلومات والإحصاءات من جانبها السلبي والذي نجد أنفسنا نركز عليه بشكل لا شعوري دون أن ننتبه للجانب الآخر من القصة، جانبا القصة صحيحان من الناحية التقنية، ولكن الفارق بينهما هو طريقة التأطير.
هل يعيد التاريخ نفسه؟
أشارت دراسة أجراها بنك الاستثمار الأمريكي "جيه بي مورجان" في يناير الماضي إلى أن سوق الأسهم الأمريكي سجل انتعاشًا سريعًا عقب كل النكسات التي تعرّض لها في بداية ظهور الكثير من الأمراض المعدية مثل فيروس سارس (نوفمبر 2002) وأنفلونزا الخنازير (مارس 2009) وإيبولا (ديسمبر 2013) وزيكا (مارس 2015)، في كل حالة من هذه الحالات الأربع تلى الانخفاض الحاد الذي شهده السوق تعافٍ سريع.
يوضح التاريخ أن الأسهم عادة ما تستعيد مستوياتها السابقة بمجرد تلاشي الخوف، رغم أن كثيراً من المستثمرين يتصرفون في بداية الأزمة كما لو أن ذلك الوباء سيتسبب في نهاية العالم أو على الأقل في أضرار بالغة لا يمكن إصلاحها، وهكذا يقع أكثرهم ضحية لأسوأ سيناريو ممكن وهو الخروج مذعورين من السوق وهو في أدنى مستوياته قبل أن يعودوا إليه في ذروة انتعاشه.
في كتابه الصادر في عام 1841 تحت عنوان "الأوهام الشعبية غير العادية وجنون الحشود" يقول "ﺗﺸﺎﺭﻟﺰ ﻣﺎﻛﺎﻱ": "نحن نحيد عن طريقنا لجعل أنفسنا غير مرتاحين. نرى أن كأس الحياة ليس مرًا بما يكفي ولذلك نقوم بوضع المزيد من السم فيه، أو نستحضر أشياءً بشعة لتخويف أنفسنا بها رغم أنها من صنع مخيلاتنا".
المصادر: أرقام – بلومبرج – فايننشيال تايمز – سيتي إيه إم
كتاب: Trading on Sentiment: The Power of Minds Over Markets
دراسة: Money, Kisses, and Electric Shocks: On the Affective Psychology of Risk
كتاب: Extraordinary Popular Delusions and the Madness of Crowds
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}