فتح وباء "كوفيد-19" جبهتين مشتعلتين في كل أنحاء العالم خلال الفترة الماضية: الصحة العامة والأزمة الاقتصادية.
ومع معاناة الشركات من تراجع الطلب وأثر تدابير الإغلاق والتباعد الاجتماعي اضطر عدد كبير من المؤسسات الخاصة لتسريح ملايين العمال أو خفض الرواتب.
لكن ألمانيا برزت في وسط الأزمة بحل مستوحى من فترة الأزمة المالية العالمية يعفي العمال من الوقوع فريسةً لتداعيات الوباء.
الوضع يختلف في ألمانيا
توقعت منظمة العمل الدولية معاناة 1.6 مليار شخص في القطاع غير الرسمي حول العالم من "ضرر حاد" في مستوى المعيشة بسبب الوباء.
وفي الربع الثاني من العام الحالي، قد يكلف كورونا عمال العالم فقدان ما يعادل 305 ملايين وظيفة بدوام كامل.
ولم تسلم ألمانيا من التداعيات السلبية لأزمة كورونا على الصعيدين الصحي والاقتصادي، مع إصابة 195 ألف شخص حتى نهاية شهر يونيو وانكماش الناتج المحلي الإجمالي بنحو 2.2% في الربع الأول وسط توقعات بهبوط تاريخي خلال إجمالي 2020.
ووسط تضرر الاقتصاد بشكل كبير جراء الأزمة كان من المنطقي تأثر العمال، ليرتفع معدل البطالة إلى 6.3% بنهاية مايو مع وصول عدد العاطلين عن العمل إلى 2.813 مليون شخص، وهو أعلى مستوى منذ مارس 2016.
لكن رغم ارتفاع عدد العاطلين، فإن الوضع في أكبر اقتصاد أوروبي لا يزال أفضل كثيراً من معظم الاقتصادات المتقدمة، فمعدل البطالة في الولايات المتحدة مثلاً قفز من 3.5% في فبراير إلى 14.7% في أبريل قبل أن يتراجع قليلاً في الشهر التالي عند 13.3%.
سر "كورازرابيت"
يكمن السبب الأبرز في تراجع معدل البطالة في ألمانيا مقارنة بمعظم الدول الكبرى خلال أزمة الوباء في برنامج العمل لوقت قصير أو ما يطلق عليه بالألمانية "كورازربيت".
والبرنامج الحكومي يستهدف دفع الشركات المتضررة من صعوبات مالية لخفض ساعات العمل المدفوعة للموظفين بدلاً من تسريحهم نهائياً من العمل، بينما تتكفل الحكومة بتعويض الموظف عن جزء كبير من الدخل المفقود.
فمثلاً، إذا أثبتت شركة ألمانية عدم قدرتها على سداد نصف رواتب الموظفين، فإنها ستمنح العاملين لديها 50% من الأجر مقابل نصف عدد ساعات العمل المتفق عليها، بينما ستتكفل الحكومة بمنح الموظفين 60% من باقي الأجر ترتفع إلى 67% في حال كان لديه أطفال وقد تصل لنحو 87% بداية من الشهر السابع لتنفيذ البرنامج.
ويعمل البرنامج من خلال قيام الشركات المتضررة بالتقدم للحكومة بطلب للحصول على دعم أجور موظفيها، بعد إثبات عدم قدرتها على التكفل بكامل أجر العمال.
لكن لماذا تفضّل ألمانيا هذا النظام المكلف مالياً؟ في أوقات الأزمات الاقتصادية الحادة يحمي هذا البرنامج دخل العمال وبالتالي يدعم قدرتهم على الإنفاق وبالتبعية الطلب الكلي في الاقتصاد.
كما يساعد هذا الدعم الحكومي الشركات على الحفاظ على رأس المال البشري لديها، مع تجنب عمليات الفصل ثم لاحقاً إعادة التعيين والتدريب.
وفي حين تفضل ألمانيا اللجوء لهذا الحل لإبقاء العلاقة قائمة بين العمال والشركات، فإن الولايات المتحدة مثلاً تعتمد فكرة إعانات البطالة لدعم المواطنين في فترات فقدان العمل لحين تحسن الأوضاع الاقتصادية وحصول الفرد على وظيفة جديدة.
حل قديم – حديث
طبقت ألمانيا برنامج دعم العمل خلال الأزمة المالية العالمية في عام 2009، وهو ما نجح آنذاك في تجنيب العمال فقدان وظائفهم.
وشهد معدل البطالة في ألمانيا انخفاضاً من 7.9% إلى 7% في منتصف أزمة الركود الكبير قبل 12 عاماً بفضل برنامج دعم الأجور.
وفي ذروة الأزمة المالية انضم 1.5 مليون عامل لبرنامج العمل لوقت قصير، مقارنة بنحو 7.3 مليون شخص في شهر مايو الماضي.
ويرجع الارتفاع الحاد لعدد المنضمين للبرنامج حالياً مقارنة بذروة أزمة 2009 إلى حقيقة أن الأزمة السابقة أضرّت بشكل خاص قطاع الصناعات التحويلية، في حين وصل أثر كارثة "كوفيد-19" حالياً لكل القطاعات تقريباً باستثناء قطاع التشييد والبناء.
وفي حين تقدمت الشركات في ألمانيا بطلبات لدخول أكثر من 10 ملايين عامل لبرنامج دعم الأجور الحكومي، فإنه لم يتم قبول كل الطلبات بسبب عدم استيفاء الشروط الموضوعة.
وخففت ألمانيا شروط الدخول في البرنامج مقارنة بأزمة 2009، حيث لم تعد الشركات مضطرة لإثبات عدم قدرتها على سداد رواتب 30% على الأقل من الموظفين، لتصبح النسبة حالياً 10% فحسب.
كما وسّعت حكومة المستشارة أنجيلا ميركل البرنامج ليشمل العاملين بعقود غير دائمة مع تغطية مساهمات الضمان الاجتماعي ورفع الحد الأقصى للبرنامج إلى 21 شهراً مع زيادة تعويضات الأجور حتى 87% بعد الشهر السابع لبدء البرنامج.
أوروبا تحاكي التجربة
لم تتوقف تجربة دعم أجور الموظفين على ألمانيا فحسب، حيث نفذت دول عدة نفس البرنامج مع اختلاف التفاصيل في مسعى لتعزيز سوق العمل ومنع فقدان ملايين المواطنين لوظائفهم.
وأقرت المملكة المتحدة برنامجاً مماثلاً مع بداية ضربة فيروس كورونا، يقضي بتغطية ما يصل إلى 80% من أجر الموظف في حال عدم قدرة شركته على الوفاء بالتزامتها المالية.
كما تعتبر دول فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وهولندا وبلجيكا من ضمن الدول التي تسمح للشركات بالحصول على تمويل حكومي لدفع أجور موظفيها في فترات تراجع الإيرادات.
بينما أقرّت السويد والدنمارك تدابير مماثلة تستهدف تعويض الموظفين عن الدخل المفقود في حال خفض الشركات لساعات العمل المدفوعة.
وأعلنت المفوضية الأوروبية خطة لإقراض الدول الأعضاء ما يصل إلى 100 مليار يورو لإنشاء أو توسيع برامج دعم العمل لفترات قصيرة خلال الأزمة الحالية.
ومع عدم اليقين المتفشي عالمياً حيال فيروس كورونا وأثره الاجتماعي والاقتصادي، فإن ألمانيا تضمن تخفيف المعاناة التي قد تواجه العمال حتى نهاية الوباء وعودة الحياة لطبيعتها.
التجربة السعودية
وكان للسعودية أيضاً نصيب من التجربة في هذا الشأن بعدما ساهمت "ساند" عن طريق مبادرتها التي استمرت ثلاثة أشهر التي دعّمت السعوديين العاملين في القطاع الخاص واستفادت منها 90 ألف منشأة وأكثر من 480 ألف مشترك صرفت لهم مبالغ تزيد على 3.5 مليار ريال.
وساهمت تلك الخطوة في خفض عدد المستبعدين من العمل في القطاع الخاص بنسبة 10% خلال النصف الأول من 2020 بالمقارنة مع نفس الفترة من عام 2019.
ومن المنتظر زيادة الدعم خلال الفترة المقبلة لمواجهة تداعيات "كورونا"، والتي ستشمل 70% من السعوديين العاملين في المنشآت الأكثر تضرراً و50% كحد أقصى من السعوديين في المنشآت الأقل تضرراً بالجائحة حسب ما تحدده اللجنة المعنية.
المصادر: أرقام - واس - وكالة العمل الفيدرالية الألمانية – معهد إيفو – منظمة العمل الدولية - إي.إن.جي – صندوق النقد الدولي – بلومبرج - الإيكونوميست
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}