في شهري فبراير ومارس من عام 2009، سجّل سوق الأسهم الأمريكي أسوأ أداء له منذ بداية الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في عام 2007، حيث اعتقد أغلب المشاركين في السوق وقتها أن "العالم المالي" بشكله الحديث انتهى وأن زواله مسألة وقت.
وما عزز هذا الاعتقاد لديهم أن أزمة الائتمان التي بدأت في الولايات المتحدة سرعان ما انتشرت آثارها في جميع أنحاء العالم مهددة استقرار الكثير من البنوك والأسواق والاقتصادات في أوروبا وآسيا.
الخوف في كل مكان
كان الوضع في السوق الأمريكي مرعبًا ومخيفًا؛ فقد اقترب بنك الاستثمار الأمريكي الشهير "بير ستيرنز" من حافة الانهيار قبل أن يتدخل بنك "جي بي مورجان" لإنقاذه في اللحظة الأخيرة، بينما كان بنك "ليمان براذرز" – رابع أكبر بنك في البلاد في ذلك الوقت – أقل حظًا؛ حيث تُرك لمصيره ليعلن إفلاسه في سبتمبر 2008.
حتى شركة "جنرال إليكتريك" العريقة التي لطالما عرفت الاستقرار اقتربت من حافة الانهيار، كل هذه الأحداث دفعت أعدادًا كبيرة من الناس إلى التخلص من حيازاتها من الأسهم والسندات وتحويل أموالها إلى نقد أو ذهب، كان الخوف من الانهيار الاقتصادي التام يسيطر على الجميع.
لكن حالة الهلع والخوف هذه التي كانت تسيطر على الأجواء في السوق نظر إليها آخرون باعتبارها فرصة العمر التي ربما لن تتكرر، فقد كان هناك العديد من الأسهم الممتازة – مثل "أمريكان إكسبريس" و"جنرال إليكتريك" و"مورجان ستانلي" و"جولدمان ساكس" و"ويلز فارجو" – التي كان يتم تداولها دون قيمتها العادلة بكثير، اشتراها البعض وحققوا في الوقت الصحيح بفضلها ثروات.
كان السوق أيضًا مليئًا بالعديد من الشركات التي يتم تداول أسهمها بأسعار تقل عن قيمتها الدفترية، أي بأقل من القيمة التي سيحصل عليها المستثمر في حال أفلست الشركة وسددت ديونها، ولكن تحت وطأة الذعر الذي كان يسيطر على كل حواسهم، تجاهل معظم المشاركين في السوق التناقض الصارخ بين أسعار الأسهم وقيمتها الدفترية، واستمروا في البيع والتخلص من حيازاتهم.
بحلول صيف 2010 كان من الواضح أن أسوأ ما في الأزمة المالية قد انتهى، وذلك بفضل سياسات وتدابير مجلس الاحتياطي الفيدرالي غير التقليدية التي اتخذها بالتنسيق مع كبرى البنوك المركزية حول العالم، والتي كان أساسها خفض أسعار الفائدة، لكن انتهت الأزمة واختفت معها الكثير من الفرص الواعدة.
مكاسب كانت في المتناول
في سبتمبر من عام 2011، بعث "كريس ديفيس" مدير صندوق الاستثمار الأمريكي "ديفيس نيويورك فينشر فاند" برسالة إلى مستثمري الصندوق يخبرهم فيها بأنه كان بالإمكان أن يحقق لهم عائدات أفضل، وذلك على الرغم من أن قيمة الصندوق زادت بنسبة 100% منذ نهاية الأزمة.
قال "ديفيس": إن أكبر الأخطاء التي ارتكبناها في السنوات الأخيرة من المحتمل ألا تظهر في بياناتنا المالية، وهذا ليس لأننا نتجاهلها أو نخفيها بل لأنها تتعلق بأشياء لم نفعلها، بعبارة أخرى، قد تكون أخطاؤنا الأكثر تكلفة خلال هذه الأزمة المالية هي التقاعس عن اقتناص الكثير من الأسهم الجيدة عندما كان الجميع يشعرون بالذعر".
وضرب "ديفيس" المثال بسهمي "ويلز فارجو" و"أمريكان إكسبريس" اللذين انخفض سعرهما في ذروة الأزمة إلى نحو 8 دولارات و10 دولارات على الترتيب. وتابع "ديفيس" قائلاً: "لو قمنا حينها بضخ أقل من 1% من أموال الصندوق في كل سهم لكنا نجحنا في تحقيق مكاسب تعوضنا عما خسرناه في سهم شركة التأمين "إيه آي جي"."
بحلول مايو 2011 وصل سعر سهم "ويلز فارجو" إلى 29 دولارًا مرتفعًا بنسبة 260% بالمقارنة مع سعره في ذروة الأزمة، في حين ارتفع سهم "أمريكان إكسبريس" بنحو 400% ليصل إلى 50 دولارًا، وكحال أغلب المستثمرين في ذلك الوقت فوت "ديفيس" هذه الفرصة بسبب سيطرة الخوف عليه.
كن جشعًا متى كان الآخرون خائفين
في الحقيقة إن الخوف يجب أن يكون صديق المستثمر؛ فالمستثمر الذكي هو مَن يعرف كيف يستغل نوبات الخوف التي تصيب المشاركين في السوق من آن لآخر؛ فحالة الخوف التي تسيطر على جمهور المستثمرين على خلفية الأخبار السيئة تشل قدرتهم على التفكير بشكل منطقي، وتدفعهم للتصرف كوحدة واحدة، ففي هذه اللحظة تعتبر كل الأسهم سيئة، لا أحد يفكر في ظروف ومزايا كل سهم.
الناس عادة ما يبيعون حيازاتهم من الأسهم على أساس ردود الفعل العاطفية تجاه الأخبار، والتي تتفاقم بسبب عقلية القطيع واندفاع الحشود نحو نفس الباب؛ فالخوف يجعل الناس لا يلتفتون لحالة الأساسيات والتي من المفترض أن الأسهم تستمد منها قيمتها.
ولذلك من الشائع جدًا أن تجد أناسًا يتخلون عن أسهم أساسياتها المالية جيدة جدًا ولم يطرأ عليها أي تغيير سلبي يذكر لا لشيء إلا لأن مزاج السوق انقلب ضدها فجأة، كل ما يفعله هؤلاء هو أنهم يبيعون بسعر منخفض ما اشتروه بسعر مرتفع.
في تلك اللحظة ينقض عدد من المستثمرين الذين يمتلكون الجرأة ورباطة الجأش الكافية ويقتنصون هذه الأسهم، لأنهم يدركون أنه بمجرد تلاشي الخوف سوف تستعيد تلك الأسهم قيمتها خلال المدى القريب أو المتوسط لأن أساسياتها جيدة وتستحق أكثر من السعر الذي تم التخلي به عنها.
هؤلاء لا يهزهم الخوف لأنهم ببساطة لا يهتمون بما يفعله أو يفكر فيه الآخرون، ويركزون فقط على أبحاثهم وتحليلاتهم، وهو ما يمكنهم من الحكم على الأمور بشكل أكثر عقلانية من غيرهم، ويمنحهم كذلك القدرة النفسية على مخالفة الحشود واقتناص ما يؤمنون بأنها أسهم جيدة حتى لو كان لكل السوق رأي آخر.
يقول طبيب الأعصاب والاقتصادي الأمريكي "ويليام جاي بيرنستاين": هل تعرفون من هم أنجح المستثمرين؟ هم أولئك الذين لا يتأثرون بمشاعر الآخرين حين يتخذون أي قرار استثماري. في الواقع، إن الأشخاص شديدي العاطفية الذين أعرفهم هم أسوأ ما يكونون كمستثمرين.
أما الملياردير الأمريكي الشهير "وارن بافيت" فقد قال: "سأقول لك كيف تكون غنيًا، كن خائفًا متى كان الآخرون جشعين، وكن جشعًا متى كان الآخرون خائفين. الأمر بهذه البساطة".
المثير ربما للسخرية هو أن "بافيت" قال تلك الكلمات أمام شاشات التلفزيون في أوائل أكتوبر 2008 أي في ذروة الأزمة المالية، وبالتالي كان لدى الملايين من الناس الذي استمعوا لحديثه الفرصة للاستفادة من نصيحته حين كان الخوف يسيطر على الجميع وأسعار الأسهم في الحضيض، ولكن قليلين هم مَن فعلوا، واستمر الذعر يسيطر على الأسواق لمدة 6 أشهر أخرى.
منذ ظهوره على الساحة كأحد أنجح مستثمري سوق الأسهم في التاريخ وحتى يومنا هذا، لا تزال أعداد الذين يقتبسون عبارات ونصائح "بافيت" أكبر بكثير من الذين يعملون بها وينفذونها.
المصادر: أرقام – Davis New York Venture Fund, Annual Review, 2010, -- The Charlie Rose Show – وول ستريت جورنال
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}