في عام 2012، أعلنت شركة "إيستمان كوداك" الأمريكية العريقة إفلاسها، وهو خبر أدهش الكثير من المتابعين؛ نظراً لأن الشركة التي اخترعت الكاميرا المحمولة وساهمت في نقل الصور الأولى من القمر للعالم، كانت تستحوذ في وقت من الأوقات على 90% من السوق الأمريكي.
ومنذ ذلك الحين وتستمر شركات كبرى كانت ملء السمع والبصر حتى سنوات قريبة في الانزلاق من القمة نحو الهاوية واحدة تلو الأخرى، وربما تعتبر كل من "نوكيا" و"بلاك بيري" أشهر الأمثلة في السوق.
جلست الفنلندية "نوكيا" إلى جانب الكندية "بلاك بيري" تكافحان من أجل التعاطي مع تحركات المبادرة من قبل المنافسين، وتشاهدان السيطرة السريعة من جانب "أبل" و"آندرويد" على حصصهما السوقية، ورغم أنهما حاولتا الرد، لكن دون جدوى.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن، لماذا لم تتحرك هذه الشركات مبكراً؟ لماذا تركت نفسها فريسة لمنافسين لم يكن لهم قبل سنوات موطأ قدم في السوق؟
الإجابة ببساطة، هي أن شركات "كوداك" و"نوكيا" و"بلاك بيري" وغيرها الكثير، فشلت في الموازنة بين إستراتيجيتين رئيسيتين تنتهجهما عادة الشركات العاملة في الحقل التكنولوجي، وهما: الاستكشاف (Exploration) والاستغلال (Exploitation).
الطريق.. هل هو مسار واحد؟
- هناك قرار مهم تحتاج أي شركة للتفكير جيداً قبل اتخاذه، وهو متى تبدأ في تحسين المنتجات والخدمات القائمة (الاستغلال)، ومتى تتجه للاستثمار في البحث عن إمكانيات ومنتجات جديدة (الاستكشاف).
- كم عدد الشركات التي دمّرت نفسها من خلال إصرارها على الاستثمار فقط في المنتجات التي صنعت نجاحها، متجاهلة أهمية البحث والتطوير من أجل خلق مفاهيم ومنتجات وتقنيات جديدة، ليسبقها إليها آخرون ظهروا من العدم وأمسكوا بناصية السوق؟
- أنت شخصياً كفرد، لديك مشكلة مماثلة، فأنت بالتأكيد ربما تساءلت في أوقات مختلفة من حياتك، "هل يجب علي أن أواصل القيام بما أفعله منذ زمن على الرغم من أنه يبدو دون المستوى الأمثل؟، أو العكس، أم يجب علي أن أسعى لتجربة أشياء أخرى، مع الأخذ في الاعتبار، خطر عدم حدوث أي تحسن؟
- إن الاستكشاف والاستغلال هما في الواقع وظيفتان تنفيذيتان للعقل تديران اهتماماتنا بطرق مختلفة. وبسبب أنهما طريقتان مختلفتان، هناك توتر مستمر بين هاتين الوظيفتين داخل عقل الجميع.
- الاستغلال يتطلب تركيزنا الكامل لكي نقوم بما نفعله دائماً على أكمل وجه، وهو في الواقع يعتبر أصل الكفاءة وبالتالي الإنتاجية. في المقابل، يسمح لنا الاستكشاف بالابتعاد عن واقعنا الحالي – الذي يستحوذ على كامل تركيزنا الآن – واستطلاع حقائق أخرى وإيجاد آفاق جديدة، وهذا هو أصل الابتكار.
- لنوضح الأمر ببساطة أكثر باستخدام مصطلحات أكثر شيوعاً، على سبيل المثال، حين تقرر أن تصطحب زوجتك للعشاء في المطعم المفضل لديك، فأنت تتبع إستراتيجية الاستغلال، أما حين تقرر اصطحابها إلى مطعم جديد – من الممكن أن يكون أفضل أو أسوأ من الأول – فأنت هنا تستكشف.
تجربة
- في فبراير/شباط 2014، نشرت صحيفة الإدارة الإستراتيجية "إستراتيجيك منجمنت جورنال" بحثًا درس خلاله الباحثون سلوكيات صنع القرار لدى 63 شخصاً يتمتعون بأربع سنوات على الأقل من الخبرة في صنع القرارات الإدارية.
- طُلب من المشاركين الجلوس على أجهزة كمبيوتر ليلعبوا لعبة، الغرض منها هو تجميع أكبر قدر من النقاط التي يمكن مبادلتها لاحقاً بالنقود، وبعد فترة وجيزة من الإحماء لعبوا اللعبة بينما كانوا يرقدون داخل جهاز تصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، والذي قام بأخذ صور لنشاطهم الدماغي.
- اللعبة كانت عبارة عن أربع ماكينات قمار، يستطيع كل مشارك كسب النقاط منها وفقاً لقواعد تتغير من جولة إلى أخرى، وبالفعل لعب كل مشارك ما مجموعه 300 جولة.
- هناك نقطة مهمة تجدر الإشارة إليها، وهي أن القواعد المتغيرة للعبة لم يتم تحديدها أبدًا، لذلك كان على المشاركين استكشافها بأنفسهم من خلال تجاربهم، وبإمكان كل مشارك الاختيار بين متابعة الاعتماد على الإستراتيجية التي أصبح على دراية بها من خلال تجاربه (استغلال) أو استكشاف أخرى جديدة قد تحقق أو لا تحقق له نتائج أفضل (استكشاف).
- قارن الباحثون بين خيارات المشاركين في الدراسة (عدد خيارات الاستكشاف والاستغلال وعدد المرات التي تحولوا فيها من واحدة إلى الأخرى) وبين أدائهم في صنع القرار.
- وجد الباحثون صلات كبيرة بين فاعلية المناطق المرتبطة بالتحكم والانتباه في الدماغ وبين الأداء الأفضل في اللعبة، وهو ما أيد فرضيتهم التي تشير إلى أن زيادة السيطرة المنتبهة ترتبط بصناعة أفضل للقرار.
- خلص الباحثون إلى أن الصناعة الأفضل للقرار تعتمد على القدرة على الموازنة بين الاستكشاف والاستغلال بشكل مناسب، ومعرفة متى يجب التحول من واحدة إلى الأخرى.
الطريقة الأفضل
- الاستكشاف محفوف بالمخاطر، حيث تحتاج إلى استثمار الموارد – الوقت والمال – لكي تصل إلى نتيجة، ورغم ذلك، لا يستطيع أي شخص أن يضمن لك أن نتيجة هذا البحث ستكون جديرة بالاهتمام أو تستحق ما بذلته من موارد.. باختصار، لا توجد ضمانات.
- لكن الاستغلال أيضاً ينطوي على مخاطر؛ فقيامك بفعل الأشياء التي تفعلها دائماً بنفس الطريقة يشعرك بأمان زائف، ويضيق نطاق رؤيتك داخل منطقة الراحة الخاصة بك (Comfort Zone).
- اعتمادك على الاستكشاف فقط يعني عدم قدرتك على الاستفادة من المعرفة التي تراكمت من تجاربك السابقة، وعدم التمتع بفوائد هذا السعي، وهذا ما يحدث حين تقوم مثلاً بترك مساق دراسي لتعليم الإنجليزية، وتذهب إلى آخر على أمل أنه أفضل من الأول، وتستمر في التنقل هكذا، وفي النهاية لا يحدث أي تحسن في لغتك الإنجليزية، وعلى الأرجح لن يعلو مستواك فيها عن كعب قدمك.
- على الجانب الآخر، الاعتماد المفرط على إستراتيجية "الاستغلال" يمنعك من التكيف مع التغيرات، هذا ما يحدث حين تصر على استخدام الطرق الإنتاجية نفسها مرارًا وتكرارًا، في ظل وجود طرق أخرى من الممكن أن توفر لك مثلاً 30% من وقتك.
- أولئك الذين يستطيعون معرفة متى يجب أن يقوموا بالتبديل بين الإستراتيجيتين، هم من يحققون النجاح ويحافظون عليه، سواء كان ذلك في الأعمال التجارية أو في الحياة الشخصية.
- لكن في الوقت نفسه، التبديل بين الإستراتيجيتين ليس سهلاً كما يبدو؛ فالاستغلال للمعرفة الموجودة لديك، مريح جداً ويسهل عليك البقاء في مكانك، ولكن لفترة مؤقتة، بينما يتطلب الاستكشاف والتنقيب جهدًا وتصميمًا أكبر، ولذلك يعتبر الاستكشاف ضمنيًا بمثابة مجابهة العادات الراسخة.
- أخيراً، لا يتعلق الأمر بالاختيار بين الاستكشاف والاستغلال، أو بين المرونة والكفاءة، وإنما يتعلق بالقدرة على تحقيق التوازن السليم بين الإستراتيجيتين.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}