قبل ثلاثة وأربعين عامًا وتحديدًا في السابع والعشرين من مارس 1977 اصطدمت طائرتان عملاقتان من طراز بوينج "747" على أرض المدرج الخاص بمطار لوس روديوس في جزيرة تنريف، وهي واحدة من جزر الكناري الإسبانية في حادث راح ضحيته 583 شخصًا، ما جعله أكبر كارثة جوية في التاريخ.
وبحسب تقرير المحققين في الحادث، فإن الركاب الذين نجوا من سلسلة الانفجارات التي اندلعت بالطائرتين والتي أودت بحياة المئات هم أولئك الذين سارعوا إلى الخروج بمجرد وقوع أول انفجار. وأفاد هؤلاء لاحقًا أن أكثر الركاب رفضوا فعل أي شيء وفضلوا البقاء في مقاعدهم وبدوا راضين تمامًا وكأنه لا شيء خطأ.
وللأسف، ليس من المستغرب أن أولئك الضحايا الذين بقوا في أماكنهم مذهولين مما يحدث ولم يحركوا ساكنًا أحرقوا في النهاية حتى الموت ولم ينجُ منهم أحد. كيف يمكن لعاقل أن يفعل ذلك؟ هكذا تساءل كثيرون. ببساطة هؤلاء الضحايا كانوا واقعين تحت تأثير تحيز معرفي جعلهم يشعرون بأن الأمور على ما يرام وأنه لا شيء غير طبيعي، وذلك رغم سماعهم الانفجارات الأولية التي لم تكن قاتلة.
كورونا .. ما بين التهوين والاستهتار
"رغم الانتقادات التي توجه إلي باستمرار، يظل فيروس كورونا بالنسبة لي ليس سوى شكل من أشكال الذُّهان، ولن أنكر هذا أبدًا لأنني مررت بعديد من حالات الذُّهان معكم، ونحن نعرف كيف كانت النتائج" .. تلك كانت مقتطفات من حديث الرئيس البيلاروسي "ألكسندر لوكاشينكو" أمام حشد من أنصاره في مارس الماضي الذي هون فيه من أمر فيروس كورنا المستجد وزعم بأنه لا أحد سيموت في بلاده بسببه.
ويمكن ضم "لوكاشينكو" إلى قائمة طويلة من القادة والزعماء العالميين الذين يهونون من أمر الفيروس ويستهترون بتبعاته، مثل الرئيس البرازيلي "جاير بولسونارو" ورئيس نيكاراجوا "دانيال أورتيجا" والرئيس التركمستاني "قربانقلي بردي محمدوف". المشترك بين هؤلاء جميعًا ليس فقط إنكارهم الشديد لأي تهديد قد يشكله الفيروس ولكن أيضًا ازدراؤهم لذعر ومخاوف الآخرين.
حتى في دولة متقدمة مثل بريطانيا، كشفت صحيفة صنداي تايمز أن رئيس الوزراء البريطاني "بوريس جونسون" تجاهل ولم يحضر خمسة اجتماعات أزمة تتعلق بفيروس كورونا، وركز بدلًا من ذلك على شؤون أخرى، وذلك في وقت يواجه فيه العاملون في مجال الصحة في البلاد نقصًا حادًا في أدوات الحماية وأجهزة الكشف والاختبار.
وفي الولايات المتحدة، هناك الرئيس "دونالد ترامب" العازم على إعادة فتح البلاد بحلول مايو القادم حتى مع استمرار أعداد الوفيات والإصابات في الارتفاع بوتيرة متسارعة، متحديًا بذلك نصائح مسؤولي الصحة العامة، فضلًا عن عدد من كبار مساعديه بعدم التسرع في تخفيف القيود الحالية قبل أن يتم إجراء اختبارات الكشف على الفيروس على نطاق واسع.
والسؤال الآن: ما الذي دفع هؤلاء القادة العالميين إلى دفن رؤوسهم في الرمال والتصرف وكأن الأمور طبيعية وأن الفيروس غير موجود أصلًا؟ في الحقيقة لم يكن هؤلاء وحدهم هم من فكروا بتلك الطريقة، فقبل نحو شهر من الآن لم يتوقع كثيرون أنهم سيضطرون للبقاء محاصرين في منازلهم بينما يسيطر عليهم القلق من احتمال إصابتهم بالفيروس أو التأثر بتبعات الكساد الاقتصادي المحتمل.
وقبل نحو شهرين فقط من الآن وتحديدًا في التاسع عشر من فبراير الماضي بلغ سوق الأسهم الأمريكي إلى أعلى مستوياته على الإطلاق، وذلك في نفس الوقت الذي كانت فيه معدلات الإصابة في مدينة ووهان الصينية خارجة عن نطاق السيطرة وبدء الفيروس في الانتشار بوتيرة متسارعة خارج الصين.
علم النفس يوضح الصورة
للوهلة الأولى تبدو كل هذه التصرفات غير منطقية ومحبطة، فكيف يقلل العالم بأسره من أهمية شيء بهذه الجدية كان في الإمكان توقع تبعاته؟ هذا ببساطة لأن البشر في كثير من الأحيان غير عقلانيين في تصرفاتهم، وغالبًا ما يتخذون قراراتهم على أساس عاطفي وليس على أساس عقلي، كما أنهم معرضون طوال الوقت لخطر الوقوع في فخ عدد من التحيزات الإدراكية والمعرفية مثل حالة الانحياز للسواء أو التحيز للحالة الطبيعية (Normalcy Bias).
التحيز للحالة الطبيعية والمعروف أيضًا باسم تأثير النعام هو باختصار ميل الناس إلى الاعتقاد بأن الأشياء ستستمر في العمل بشكل أو بآخر كما كانت في الماضي وأن الأمور ستستمر في الجريان بشكل طبيعي حتى في أوقات الأزمات، ما يؤدي إلى تقليل احتمالية التهديدات الحالية وآثارها الخطيرة. ببساطة تصر أدمغتنا على أن كل شيء على ما يرام، وبالتالي لا داعي لفعل أي شيء أو تغيير أي شيء.
هذا التحيز هو ما يفسر سببب استهتار وتململ الكثيرين من القيود المفروضة مؤخرًا على الحياة العامة في إطار مكافحة فيروس كورونا المستجد رغم وضوح ما يشكله من خطر بشكل جلي على الأقل من خلال الإحصاءات التي تشير إلى اقتراب أعداد الإصابات من الثلاثة ملايين ووصلت الوفيات إلى نحو 190 ألفًا. ببساطة يجد الناس صعوبة في التخلي عن عاداتهم القديمة.
والأسوأ من وقوع العامة في فخ هذا التحيز الذي يعرضهم بشكل واضح للخطر هو وقوع القادة وصناع القرار فريسة له. فرغم التهديد الجاد الذي شكله فيروس "سارس" – الذي ينتمي لعائلة كورونا – حينما ظهر في الصين في عام 2002، قلل معظم السياسيين ورجال الأعمال لاحقًا من إمكانية حدوث عدوى فيروسية مماثلة في المستقبل. وعلى هذا الأساس لم يتم الاستعداد لا من خلال بناء ما يكفي من المرافق الطبية أو تخزين كميات كافية من المعدات الطبية، كما تم تجاهل خطط الطوارئ.
أخيرًا، إن أولئك الذين يتصرفون على نحو غير مسؤول حتى الآن ويبدون غير آبهين بالفيروس وتبعاته ليسوا أغبياء، بل هم ببساطة غير مدركين لطبيعة التحيز المعرفي الواقعين تحت تأثيره. وإخبار الناس أو نعتهم بأنهم أغبياء لن يساعد على الأغلب في تغيير طريقة تفكيرهم، ربما ينجح تفسير وشرح سلوكهم لهم في فعل ذلك. فلا أحد في النهاية يريد أن يجلس في طائرة تحترق لا يحرك ساكنًا بينما بوسعه النجاة.
المصادر: أرقام – التلغراف – واشنطن بوست – فايننشيال تايمز
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}