في العام 1905 فوجئ الكيميائي الكندي الشاب "هربرت داو" بزائر غاضب من ألمانيا يقتحم عليه مكتبه بالمصنع التابع لشركته الناشئة "داو كيميكال" في ميتشيجان قبل أن يواجهه قائلاً: "نحن لدينا أدلة على أنك تقوم بتصدير البروم إلى خارج الولايات المتحدة، "ليرد عليه "داو" قائلاً: "وما المشكلة في ذلك؟".
وتابع الزائر الغاضب حديثه لـ"داو" قائلاً: "ألا تعلم أنه لا يمكنك بيع البروم خارج سوقك المحلي؟" وهو السؤال الذي أجاب عليه "داو" ببرود أعصاب قائلاً: "لا لم أكن أعرف شيئاً من هذا القبيل." لتثير إجابته غيظ الزائر أكثر لأنه كان موقناً من أن "داو" يكذب.
وفي الحقيقة إن "داو" كان يكذب بالفعل وكان يدرك أن زائره يعرف ذلك غير أنه تعمد إغاظته تقريباً، ففي ذلك الوقت كانت كل شركات البتروكيماويات في الولايات المتحدة تعلم أنه من غير المسموح لها أن تصدر البروم تحديداً إلى خارج البلاد.
فقد كان الأمر بمثابة قاعدة غير مكتوبة يعرفها كل منتجي البتروكيماويات الأمريكيين ولم يكن هناك مَن يجرؤ منهم على انتهاك تلك القاعدة لأن هذا يضعهم في مواجهة ما اعتبروه وحشاً لا يقهر.
هذا الوحش كان يطلق عليه "برومكونفينشن" وهو عبارة عن تكتل من الشركات الألمانية التي كانت تسيطر على الإمدادات العالمية من البروم، والزائر الغاضب الذي اقتحم المصنع على "داو" والذي يدعى "هيرمان جاكوبسون" كان مبعوثاً من التكتل الألماني.
بعد تأكده من أن "داو" ليس لديه نية للتراجع صاح "جاكوبسون" مهدداً إياه بأنه إذا لم يمتنع عن تصدير البروم فإن التكتل الألماني سيبذل كل ما في وسعه كي يدمر شركته "داو كيميكال" التي كانت لا تزال في بداياتها ويخرجها من الصناعة بأي ثمن ومهما كانت التكلفة. ثم غادر "جاكوبسون" عائداً إلى ألمانيا.
كان هذا إيذانًا ببدء واحدة من أكثر المعارك في تاريخ عالم البيزنس إثارة للإعجاب، والفقرات التالية توضح كيف تمكن "داو" ذلك الشاب البالغ من العمر وقتها 38 عاماً بمفرده من هزيمة التكتل الألماني الذي كان يسيطر على المعروض العالمي من البروم في غضون 4 سنوات فقط.
"أمريكا للأمريكيين والعالم للألمان"
في عام 1896 أسس "هربرت داو" البالغ من العمر وقتها 30 عاماً شركته "داو كيميكال" في مدينة ميدلاند بولاية متشيجان الأمريكية، والتي قام من خلالها بتصنيع البروم بتكلفة أرخص بكثير من التكلفة السائدة في ذلك الوقت وذلك باستخدام تقنية التحليل الكهربائي التي يرجع له الفضل في اكتشافها.
بدأ "داو" يجني حصة معتبرة من السوق الأمريكي، ولكنه كان يدرك أنه لكي تصبح "داو كيميكال" شركة كبيرة يجب عليها مواجهة الوحش الذي يسيطر على السوق الأوروبي. في تلك الأثناء كان الألمان يسيطرون على سوق المواد الكيميائية في العالم وهي السيطرة التي بدأت منذ أوائل القرن التاسع عشر.
وفي صناعة البروم تحديداً كان هناك تكتل يضم 30 شركة ألمانية يسمى "داي دوتش برومكونفينشن" يفرض سيطرته على الجزء الأكبر من الإنتاج العالمي من البروم ويحدد سعره عند 49 سنتاً للرطل، وهو ما لم يترك للعملاء أي خيار؛ فإما أن يدفعوا 49 سنتاً للرطل وإما أن يعودوا من حيث أتوا.
لكن في الولايات المتحدة، كانت "داو" وغيرها من الشركات الأمريكية تبيع البروم في السوق المحلي مقابل 36 سنتاً للرطل، غير أنه لم يكن بوسعها تصديره؛ بسبب تهديد التكتل الألماني لها بإغراق السوق الأمريكي بالبروم الرخيص في حال أقدمت على منافسته في الأسواق الخارجية. فقد كان القانون غير المعلن هو: "أمريكا للأمريكيين والعالم للألمان".
على عكس غيره من منتجي البروم الأمريكيين، رفض "داو" اتباع هذه القاعدة وقام في عام 1904 بإرسال أول شحنة من البروم الأمريكي إلى إنجلترا مقابل 27 سنتاً للرطل أي أرخص بنسبة 49% مقارنة مع السعر الذي يفرضه التكتل الألماني على العملاء الأوروبيين.
بالخسارة .. البروم الألماني في السوق الأمريكي
بعد عدة أشهر اكتشف الألمان ما يفعله "داو" وأرسلوا إليه "هيرمان جاكوبسون" ليحذره من مغبة محاولة منافستهم في السوق الخارجية. لكن "داو" كان أكثر عناداً وجرأة مما توقع الألمان وصمم على منافستهم. لم يتراجع "داو"، وبالإضافة إلى السوق الإنجليزي بدأ في إرسال شحنات البروم إلى اليابان.
على قدر عناد "داو" كانت جدية الألمان. ففي عام 1905 وبعد فترة قصيرة من فشل اجتماع "جاكوبسون" مع "داو" بدأ التكتل الألماني في إغراق السوق الأمريكي بكميات هائلة من البروم والتي باعها مقابل 15 سنتاً فقط للرطل، أي دون تكلفة إنتاجها وذلك بغرض تدمير "داو كيميكال" التي كانت تبيع الرطل مقابل 36 سنتاً.
بعد فترة قصيرة من بدء الحرب رتب "جاكوبسون" اجتماعاً آخر مع "داو" في سانت لويس طالبه خلاله بالتراجع عن تصدير البروم إلى الخارج وإلا سيستمر التكتل الألماني في إغراق السوق الأمريكي بالبروم الرخيص حتى تفلس "داو كيميكال".
أكد "جاكوبسون" لـ"داو" أن التكتل يمتلك المال الكافي والدعم الحكومي وهو ما يمكنه من الاستمرار في حرق الأسعار في السوق الأمريكي بهذا الشكل لفترة طويلة.
لكن على عكس ما توقع "جاكوبسون" لم يخف "داو" من تهديداته، وأخبره بأنه لن يتراجع وسيبيع البروم لمن يشتري منه، غادر "داو" الاجتماع، وبينما يستقل القطار عائداً إلى مصنعه في ميتشيجان أدرك أن مستقبل شركته – إذا كان لها مستقبل – يعتمد على كيفية تعامله مع الألمان.
في الثاني والعشرين من أبريل 1905 أرسل "داو" رسالة إلى المستثمر الرئيسي بشركته "داو كيميكال" يخبره فيها بأنه ليس لديه نية لخفض سعر البروم في السوق الأمريكي إلى 15 سنتاً ليواكب الألمان وأنه يفضل بدلاً من ذلك التوقف عن البيع في الولايات المتحدة.
خطة "داو" التي استعان فيها بالألمان
انسحبت "داو كيميكال" بسرية من السوق الأمريكي تاركة إياه للألمان الذين يبيعون فيه البروم بأقل من تكلفته، ووجهت إنتاجها بالكامل إلى الأسواق الخارجية التي لا يزال الألمان يبيعون فيها البروم مقابل 49 سنتاً للرطل.
في الوقت نفسه، قام "داو" سراً وعبر وكلاء بشراء كميات كبيرة من البروم الذي يبيعه الألمان في السوق الأمريكي مقابل 15 سنتاً للرطل، قبل أن يقوم هو بإعادة تعبئته وتغليفه وبيعه في الأسواق الأوروبية وفي ألمانيا نفسها مقابل 27 سنتاً للرطل/ محققاً ربحاً قدره 12 سنتاً للرطل، تحت أسماء علامات تجارية مستعارة.
استمر الألمان لشهور في إغراق السوق الأمريكي، غير أنهم لاحظوا أن "داو كيميكال" لا تبدو متأثرة أبداً بهذه الأسعار ولا تزال قادرة على العمل، وظنوا أنهم أخطأوا في حساب تكلفة الإنتاج لدى "داو" وعلى هذا الأساس أمعنوا في تخفيض الأسعار من 15 سنتاً إلى 12 سنتاً للرطل ثم إلى 10 سنتات.
أصيب الألمان بالرعب في ظل تزايد الطلب الأمريكي بشدة على البروم الذي يبيعونه بخسارة، لتبدأ مناوشات في داخل التكتل نفسه حول مَن يجب أن يفي بالعقود الموقعة مع الأمريكيين. فقد كانوا لا يدركون السبب الذي جعل السوق الأمريكي كالبئر التي لا قاع لها.
في الوقت نفسه بعد أن لاحظوا وجود بروم رخيص غير بروم "داو" في الأسواق الأوروبية بدأ أعضاء التكتل الألماني يشكون في وجود خائن بينهم يخدعهم ولا يلتزم بالسعر الثابت المتفق عليه ، ولكنهم كانوا يجهلون أن هذا البروم هو نفس البروم الذي باعوه في السوق الأمريكي بالخسارة واشتراه "داو" منهم دون أن يدروا قبل أن يعيد بيعه في أسواقهم تحت أسماء علامات تجارية لا تخصه.
الألمان يستسلمون
استمر الوضع على هذه الحال لمدة أربع سنوات، تكبد فيها الألمان خسائر ضخمة؛ نتيجة حرق الأسعار وتمكنوا من تدمير معظم منتجي البروم الأمريكيين ما عدا "داو" الذين دخلوا هذه الحرب من أجل القضاء عليه.
طوال هذه السنوات ترك "داو" الألمان يدمرون منافسيه في السوق الأمريكي الذي انسحب منه مؤقتاً وبشكل غير معلن وقام هو سراً باستخدام البروم الألماني الذي اشتراه منهم دون أن يدروا التوسع في السوق العالمي لتصبح "داو كيميكال" واحدة من كبرى الشركات المنتجة للمركب الكميائي في العالم.
في عام 1908 فهم الألمان لعبة "داو" أخيراً ولم يجدوا بداً من التراجع ومحاولة التفاوض معه والقبول بشروطه. وفي نوفمبر من ذلك العام اتفق الطرفان على الآتي: ينسحب الألمان من السوق الأمريكي في مقابل انسحاب "داو" من السوق الألماني، بينما يصبح بقية أنحاء العالم ساحة للمنافسة الحرة بين الجميع.
وهكذا تمكن "داو" بمفرده من كسر الاحتكار الألماني لسوق البروم العالمي للأبد لتصبح الأسعار خاضعة لقوانين السوق الحرة.
المصادر: أرقام
دراسة: ? Do Price Wars Facilitate Collusion
كتاب: Business Ethics For Dummies
كتاب: Herbert H. Dow: Pioneer in Creative Chemistry Foundation for Economic Education
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}