لا شك أن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون سوف يفكر، وهو يتعافى من فيروس كورونا، بالوباء الذي واجهته أثينا قبل آلاف السنوات.
فقد اجتاح أثينا عام 430 قبل الميلاد مرض الطاعون الذي قتل الآلاف ، ومن بينهم الشخصية السياسية بركليس الذي يجله رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون ويعتبره مثله الأعلى.
فما الذي يمكن أن نتعلمه من تجربة الأثينيين في مواجهة الطاعون ونحن نواجه جائحة كورونا؟
بوريس جونسون واسع الاطلاع على تاريخ وثقافة اليونان القديمة، ويعلم أن الأدب الغربي أبصر النور مع جائحة الطاعون التي وصفها الأديب اليوناني العظيم هوميروس في الفصل الأول من ملحمة الإلياذة التي يحفظ جونسون عن ظهر قلب عدداً من أبياتها الشعرية.
القائد السياسي الأثيني بركليس هو قدوة جونسون على الصعيد السياسي وهو معجب به لدرجة أن منحوتة تمثل رأس بركليس تزين مكتبه في مقر مجلس الوزراء في 10 داوننغ ستريت.
ولطالما اقتبس جونسون من خطاب بركليس الحماسي، الذي ألقاه بمناسبة الذكرى السنوية الأولى للحرب المدمرة ضد إسبرطة وهو يمجد الجنود الذين سقطوا في هذه المعركة.
من المؤكد أن رئيس الوزراء البريطاني يعلم أن بركليس ألقى خطابا لا يقل عظمة وروعة عن خطابه الأول بعد ذلك بعام عندما اجتاح مرض الطاعون أثينا وقتل ثلث أبنائها.
أورد المؤرخ والجنرال اليوناني ثيوسيديدس خطابي بركليس وأشار الى أن الوصف الذي قدمه بركليس لجائحة الطاعون جدير بالقراءة لروعته الأدبية.
وقد أشار بعض المعلقين إلى أوجه الشبه ما بين المعركة التي نواجهها اليوم ضد فيروس كورونا والحرب التي خاضتها أثينا ضد جائحة الطاعون قبل أكثر من 24 قرناً.
فقد تراوحت مواقف أبناء أثينا ما بين الشهامة والخسة أثناء المأساة، وهو لا يختلف كثيراً عما نراه اليوم من موقف مشرف للعاملين في المستشفيات والإسعاف في مواجهة الموت الذي يحمله فيروس كورونا، واندفاع البعض لشراء الطعام مدفوعين بهاجسي الخوف والهلع.
لكن قليلين التفتوا إلى الرسالة التي حاول المؤرخ ثيوسيديدس إيصالها إلينا. فقد كتب أن الحقيقة الثابتة هي أن الطبيعة البشرية لا تتغير، وأنه يمكننا توقع تصرف البشر بنفس الطريقة التي تصرف بها أسلافهم عندما مروا بنفس التجارب والأحداث.
ويقول المؤرخ العظيم إنه بدأ بكتابة عمله لأن تسجيل ما عايشه وعاصره من حوادث وتدوينه بشكل واضح كفيل بإرشادنا إلى سبل مواجهة حوادث ومواقف مماثلة مستقبلا.
واعتبر أفعال أبو أقراط، أعظم وأكثر الأطباء تجديدا في عصره، مثالا على ذلك.
فبدلا من اللجوء إلى وصف التعاويذ والأدعية والصلوات الدينية والسحر والأعشاب البرية الغريبة والشعوذة لمرضاه، كان الطبيب ومن عاصره من الأطباء يزورون مرضاهم، يراقبون بدقة أعراض المرض الظاهرة عليهم ويدونون بدقة مدى تجاوبهم مع العلاج الذي يوصون به، مثل النوم وممارسة الرياضة وتنظيم النظام الغذائي.
كان جونسون نزيل مستشفى سانت توماس في لندن. ويرجح أنه خلال تلقيه العلاج لمقاومة فيروس كورونا قد قارن ما بين العلاج الذي يتلقاه وما كان يقوم به الطبيب أبوقراط في أثينا القديمة وقد يكون تذكر أيضا كلا من بركليس وثيوسيديدس.
كتب ثيوسيديدس يصف أحوال الناس عندما اجتاح الطاعون أثنيا قائلاً: " أحد أسوأ أعراض مرض الطاعون هو شعور الناس باليأس عندما يدركون أنهم باتوا أسرى المرض، ومن كان منهم مقتنعا بأن لا أمل له في الشفاء من المرض كان يستسلم لقدره ويموت سريعا".
ويضيف: "الشيء الآخر هو انتشار العدوى بسرعة بين الذين اندفعوا لخدمة ومعالجة المرضى مثل الأطباء وغيرهم. كانوا يموتون بالعشرات وكانت نسبة الوفيات بينهم هي الأعلى.... إضافة إلى ذلك تسبب الطاعون في انتشار الجريمة بشدة لأن المجرمين أيقنوا أن من الصعب ضبطهم ومعاقبتهم".
ما الدروس التي يمكننا ان نتعلمها من هذه الملاحظات؟
أول درس هو أن على الناس تفادي الإصابة بالعدوى عن طريق تجنب الاختلاط وأن على العاملين في المجال الصحي ورعاية كبار السن الحصول على الحماية والوقاية اللازمين.
الدرس الثاني هو ضرورة سيادة وتطبيق القانون بشكل فعال. أما الدرس الثالث فهو ضرورة تمتع الناس بروح إيجابية.
معظم الدول ومن بينها المملكة المتحدة اتخذت الإجراءات الكفيلة بتحقيق هذه الأهداف إلى حد بعيد وإن تأخرت بعض الدول
لقد تجاوز أبناء أثينا محنة الطاعون عام 430 قبل الميلاد بروح قتالية قوية. فبعد تلك المحنة بخمسة عشر عاما فقط أنشأوا قوة عسكرية برية وبحرية جبارة مكنتهم من قيادة حملات عسكرية خارج أراضيهم وبحارهم.
عندما أصاب الطاعون أثينا كانت قد دخلت الحرب قبل فترة قصيرة وتم إرسال وحدة عسكرية كبيرة إلى شمالي البلاد لاستكمال الأعمال القتالية. لكن لسوء الحظ نقل الجنود الطاعون معهم إلى الشمال ومات أكثر من ألف شخص هناك بالمرض.
ومن بين الجنود الذين شاركوا في الحملة التي اتجهت شمالا كان الفيلسوف سقراط.. لم يقاوم سقراط المرض ويتغلب عليه بفضل قوته البدنية وانضباطه كما قيل، بل تولى، لما عاد إلى مدينته التي كانت تعيش تحت وطأة لعنة الطاعون، رعاية المصابين بالمرض وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة دون خوف أو تردد.
من المؤكد أن سقراط كان قد كسب المناعة ضد الطاعون عندما تعرض له سابقا كما كان حال المؤرخ ثيوسيديدس الذي نجا من المرض، وأكد أن ذلك منحه المناعة ضد الإصابة بالمرض مستقب
وبعدها بآلاف السنوات، أدرك الناس ما هي المناعة من الناحية الطبية بشكل مناسب.
لكن المؤرخ يلمح إلى أن إدراك كنه التاريخ هو بحد ذاته شكل من أشكال المناعة.
التاريخ لا يقدم لنا سردا لمآسي الماضي فقط بل يمكنه أن يقدم لنا الدروس لاتخاذ الإجراءات الاحترازية المناسبة، ويعيد إلى أذهاننا أن الملاحظة الدقيقة هي في غاية الأهمية في أخذ الإجراء المناسب عند تكرار الحدث مستقبلا. كما أن التاريخ يعلمنا أن الحياة ستعود إلى سيرتها الاعتيادية يوما ما.
علينا أن نتذكر أيضا أن التاريخ لا يعيد نفسه أبدا لكنه يقدم دورسا لا تقدر بثمن للأجيال المقبلة.
كان بركليس شخصية بارزة لثلاثة عقود في أثينا قبل أن يموت بالطاعون في السادسة والستين من العمر. حالفه الحظ بشكل ملفت حتى يوم موته. فقد كان محط إعجاب واشمئزاز قل نظيرهما. شارك في حملات عسكرية وخضع للمحاكمة مرارا ، وواجه تهمة الفساد وارتكاب أفعال جنسية غير لائقة.
وعندما بلغ الخمسينيات من العمر ارتبط بعلاقة عاطفية قوية مع الشابة اللامعة اسبازيا ميليتوس وانجب منها ولدا كما ساعدته في تأليف خطابات النعي العظيمة التي كان يلقيها في مآتم الجنود.
يبلغ رئيس وزراء بريطانيا الخامسة والخمسين من العمر. وقد واجه تحديات كبيرة وعانى من الفشل وحظي بالنجاحات أيضا، وخدمه الحظ أيضا إلى حد كبير واستفاد من مهارته السياسية.
وعندما يشفى جونسون تماما من فيروس كوفيد-19 ويستعيد عافيته ويعود لممارسة عمله، لربما يجب أن يضيف منحوتات لرؤوس كل من الطبيب أبوقراط والمؤرخ ثيوسيديدس والفيلسوف سقراط إلى منحوتة بركليس على الرف الذي يعلو موقد الحطب في مكتبه.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}