تشهد الأسواق العالمية مخاوف كبيرة في الآونة الأخيرة من احتمال الوقوع في فخ الركود، بسبب العديد من العوامل المتعلقة بالحروب التجارية من جهة، وبتراجع بعض الاقتصاديات الرئيسية من جهة أخرى. غير أن السؤال يبقى، هل الركود هو أسوأ ما يواجه الاقتصاد؟
الإنتاجية أم النمو
تشير دراسة لجامعة "أكسفورد" إلى أن هناك تهديدات تعترض الاقتصاد المعاصر أسوأ كثيرًا من الركود، ولعل أبرزها هو تراجع نمو الإنتاجية منذ نهاية الأزمة المالية العالمية الأخيرة بشكل لافت، وذلك فيما يخص كافة عناصر الإنتاج من قوة بشرية ورأس مال والموارد الطبيعية.
فعلى سبيل المثال، كانت إنتاجية العمالة البشرية تنمو إبان فترة السبعينيات والثمانينيات بمعدل 0.5% سنويًا، وذلك قبل أن يتراجع المعدل إلى 0.4% خلال العقدين التاليين، ثم إلى 0.3% وسط مخاوف من تراجعها إلى دون هذا المستوى خلال الفترة المقبلة.
أما معدل التحسن في الإنتاجية للمواد الخام فقد تدهور من 2% سنويًا خلال السبعينيات والثمانينيات إلى ما دون 0.5% في أعقاب أزمة 2008. وفي هذا السياق يحذر تقرير لـ"ديلويت" من تدني معدلات النمو في إنتاجية المواد الخام دون هذا المعدل خلال السنوات المقبلة، مع زيادة الاهتمام بالخدمات على حساب الصناعة بشكل عام.
أما عنصر رأس المال فقد حافظ على معدل نمو في الإنتاجية يبلغ 0.7% كمتوسط خلال السنوات الخمسين الأخيرة، غير أن هذا يبدو معدلًا متدنيًا إذا ما تمت مقارنته بالفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية والتي بلغ فيها المعدل نفسه 3-4% وهو معدل يقل أيضًا عن الطفرة التي شهدتها الصناعات إبان الثورة الصناعية والتي بلغت 10% في بعض الأعوام.
تأثير عميق
وتشير إحصائية لمركز "جالوب" إلى أنه يجب أن يتفوق معدل تحسن الإنتاجية الإجمالي على نسبة الزيادة في السكان عالميًا، والتي بلغت 1.2% خلال 2017 وفقًا لتقديرات البنك الدولي، وذلك لكي يبقي الاقتصاد على فرصه في النمو المتصل دون تراجع كبير.
كما أن للتراجع في الإنتاجية تأثيرًا مضاعفًا وعميقًا على إحداث الركود. فوفقًا لدراسة لـ"سياكسا بنك ريسيرش" لو تمكنت الإنتاجية للعاملين من النمو في الفترة بين عامي 2005 و2015 بنفس معدلات نموها بين عامي 1995 و2004 فإن كل موطن أمريكي كان سيحصد 8400 دولار إضافية خلال تلك الفترة.
تلك المبالغ الإضافية كانت ستعزز من مستويات الإنفاق وستسهم في زيادة الرواج في الاقتصادي بطبيعة الحال، وهو ما كان سيسهم في زيادة معدلات نمو الاقتصاد الأمريكي بنسب تربو على 1% سنويًا في ظل اعتماده بنسبة 70% على الإنفاق الاستهلاكي المباشر.
على الرغم من أن الاقتصاد العالمي لم يسجل معدلات نمو سالبة، إلا أن هذا يعني وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة والبنك الدولي زيادة في استهلاك الموارد، أي أنه يعكس نموًا وليس تنمية، والفارق بين الاثنين كبير.
"تركيز الصناعات"
ومما يثير القلق أكثر من الركود اتجاه الكثير من الصناعات الهامة والحيوية، نحو المزيد من التركيز، أو الاحتكار بالأحرى، حيث يشير تقرير لـ"هارفارد" إلى أن قرابة 85% من الصناعات شهدت زيادة في التركيز خلال الـ100 عام الأخيرة.
وترصد الدراسة عام 1850 بوصفه عامًا خطيرًا للتحول في الأسواق، حيث تحول الاحتكار في هذا العام من جريمة يعاقب عليها القانون بالحبس أو السجن في الولايات المتحدة إلى جريمة تجارية يستتبعها اتخاذ قرارات ذات طبيعة اقتصادية وليست جزائية قانونية.
وأعقب هذا إقرار قوانين مشابهة في دول العالم الصناعية، بما جعل الكثير من المنظمين يتجهون بشكل تلقائي للاحتكار في ظل زوال كافة مخاوف الملاحقة الشخصية لحساب غرامات قد يتعرضون لها وقد يتجنبونها، وحتى إذا خضعوا لها فكثيرًا ما يحصدون مكاسب كبيرة تفوق أي غرامات تفرض عليهم.
وبناء على ذلك فقد شهدت مساحة المنافسة، - وتُقاس وفقًا لـ"هارفارد" بعدد الشركات العاملة في كل مجال قياسًا بما يقدمه من ناتج، وذلك بعد استبعاد عوامل مثل معدلات نمو هذا المجال - تقلصًا مستمرًا يبلغ 0.4% سنويًا، في اقتصاد ما بعد الحرب العالمية الثانية، أو اقتصاد "بريتون وودز"، وازدادت هذه المعدلات في السنوات الـ10 التي أعقبت الأزمة المالية العالمية لتصل إلى 0.7% وفقًا لتقديرات الدراسة.
الإنترنت ولامركزية الاقتصاد
وعلى الرغم من أن الإنترنت نُظر إليه بوصفه أداة جيدة لتحقيق قدر من اللامركزية الاقتصادية، وهو ما تحقق نسبيًا بظهور بعض الأعمال الناشئة التي ترتكز بشكل كامل على تواجدها عليه، إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة.
فشركة مثل "أمازون" تسيطر على 45% من إجمالي التجارة على الإنترنت في الولايات المتحدة، بل وقرابة 5% من إجمالي التجارة في القوة الاقتصادية الأولى عالميًا، مع توقعات بزيادة هذه النسبة بشكل كبير في ظل الاستحواذات التي تجريها الشركة ودخولها في مجالات جديدة مثل الشحن والصيدلة والإنتاج التلفزيوني.
وفي مجال مثل الأدوية ظهرت ممارسات صريحة من احتكار القلة، حيث تصل نسبة الأرباح إلى 30% سنويًا لبعض الشركات، بل وازدادت أسعار الأدوية بنسبة 250% عن متوسط زيادة أسعار السلع الأخرى خلال السنوات الخمسين الأخيرة بما يؤكد التركز الكبير في الإنتاج بفعل الاندماجات المتعددة التي شهدتها الصناعة.
بل تشهد المجالات التكنولوجية تحديدًا حالات من الاحتكار شبه الكامل، مثل وسائط ومواقع التواصل الاجتماعي التي تسيطر عليها "فيسبوك" بامتلاكها للموقع الأم و"واتساب" و"إنستجرام" وهؤلاء الثلاثة، يسيطرون على قرابة 83-85% من السوق مع مقاومة من تويتر وممانعة أقل من تطبيقات مثل "فايبر".
هيمنة
أما فيما يتعلق بسوق البحث عبر الإنترنت، تهيمن "جوجل" على 90.2% من السوق، واللافت أن هذه النسبة لم تكن تتعدى الثلثين في عام 2009، مع تواجد جيد نسبيًا لمواقع مثل "بينج" و"ياهو" غير أن الشركة العملاقة تمكنت من زيادة حصتها بشكل مضطرد لتصل إلى حالة تشبه الاحتكار الكامل.
بل وفي بعض الأحيان يحتاج بعض المنتجين، ولاسيما في المنتجات الصناعية البسيطة أو المنتجات الزراعية إلى التوصل إلى اتفاقات تحول دون الوصول لمرحلة من المنافسة السعرية التي تضر بالصناعة ككل، وهذا هو سبب أن 70% من المزارعين يحصلون على دخول أقل من المتوسط في البلدان النامية
ويرجع هذا إلى عدم التوصل لاتفاقات بين المنتجين تحول دون التنافس السعري الضار (دون الدخول في مرحلة الاحتكار ولكن مراعاة سعر التكلفة وهامش جيد من الربحية).
ويتسبب هذا فيما حذر منه كثيرون بوجود اقتصادين في غالبية دول العالم، أحدهما ينمو بسرعة، وغالبًا ما يكون اقتصاد الخدمات، والآخر يظل متراجعًا ويعاني نموًا بطيئًا أو حتى تآكلًا في بعض الحالات، بما ينعكس على مخاوف حقيقية من انهيار صناعات بأكملها بسبب عدم التوازن في الدخول، والذي يدفع المواهب المتميزة للعمل في القطاعات الخدمية وبدرجة أقل في القطاعات الصناعية مع نأيها بشكل كبير عن الزراعة.
والشاهد أن الركود التقليدي يكون ناجمًا عن عوامل عارضة، مثل الصراعات التجارية، ودورات رؤوس الأموال، والكوارث الطبيعية، والخلافات السياسية، غير أن كافة العوامل السابقة تهدد الاقتصاد بأزمات حقيقية وعميقة وليس مجرد ركود عارض.
المصادر: دراسة لـ"أكسفورد"، دراسة لـ"بلومبرج"، تقرير للبنك الدولي
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}