في إطار فعاليات الدورة الأولى من مؤتمر القطاع المالي الذي تم عقده في أبريل الماضي وقع محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي "ساما" "أحمد بن عبد الكريم الخليفي" ورئيس مجلس هيئة السوق المالية "محمد بن عبد الله القويز"، مذكرة تفاهم لتأسيس مركز "فنتك السعودية" وذلك بالشراكة مع مركز الملك عبد الله المالي.
وكان الهدف الرئيسي للجهات الثلاث الموقعة على تلك المذكرة من وراء تلك الخطوة هو محاولة توفير الدعم اللازم لرواد الأعمال والمنشآت الصغيرة والمتوسطة المهتمة بمجال التقنية المالية أو الـ"فنتك" وذلك من خلال توفير مساحات عمل متخصصة ومختبرات تقنية، فضلًا عن إطلاق برامج مسرعات أعمال وحاضنات متخصصة في التقنية المالية.
هذه الخطوة هي مجرد عينة من الجهود الرسمية المبذولة من قبل الجهات التنظيمية في المملكة على مدار العامين الماضيين من أجل وضع السعودية على خارطة الـ"فنتك" في منطقة الشرق الأوسط، وهي الجهود التي ساهمت بالتأكيد في أن تصبح الـ"فنتك" جزءًا (ولو ضئيلا حتى الآن) من معادلة القطاع المالي السعودي.
ولكن هذا الاهتمام الرسمي المتزايد بالـ"فنتك" على قدر إثارته للإعجاب على قدر إثارته للتساؤل. ولعل التساؤل الأبرز هو: لماذا كل هذا الاهتمام بالـ"فنتك" فجأة؟ أو ما هو القطار الذي تخشى كل من "ساما" و"هيئة سوق المال" أن يُفّوِته القطاع المالي السعودي؟ بعبارة أخرى، ما هو المحرك الرئيسي لكل هذا؟
السؤال السابق هو سؤال تأسيسي لأن الإجابة عنه مهمة جداً لكي نفهم قصة مجال الـ"فنتك" والتطورات المتسارعة التي يشهدها خلال السنوات الأخيرة ليس في المملكة فقط بل في العالم أجمع، كما أنها ستساعد على إدراك القوى الخفية المحركة للمنافسة في هذا المجال.
"هرم ماسلو"
في مقالة نشرها في عام 1943 بمجلة "فسيوجيكال ريفيو" تحت عنوان "نظرية الدافع الإنساني" قدم عالم النفس الأمريكي "أبراهام ماسلو" للعالم نظريته النفسية الشهيرة المسماة "تسلسل ماسلو الهرمي للاحتياجات" والتي أشار خلالها إلى أن سلم الحاجات الإنسانية يشبه هرماً يستوي على قاعدة الاحتياجات الأساسية البيولوجية ثم يقوم على أربعة مستويات أخرى فوقه.
على قمة هرم "ماسلو" يأتي تحقيق الذات من خلال تحقيق الفرد لآماله وتطلعاته باعتباره قمة الحاجات الإنسانية. ولكننا في الوقت نفسه نجد أن تحقيق الذات أصبح مرتبطًا بشكل أساسي بكيفية استغلال القوى الكامنة داخل تلك الذات ومدى تقدير المجتمع لها. ففي السنوات الأخيرة غيرت التكنولوجيا كثيراً من الطريقة التي يجرى من خلالها تقدير أوقاتنا.
على سبيل المثال، مع ظهور خدمة الدليفري أو تطبيقات التوصيل أصبح من غير المنطقي بالنسبة لكثيرين أن يقودوا السيارة بأنفسهم ذهابًا وإيابًا إلى المطعم كي يشتروا الطعام بينما بإمكانهم أن يطلبوه إلى حيث يوجدون باستخدام الجوال أو الإنترنت وبالتالي يوفرون وقتاً من الممكن استغلاله في إنجاز أشياء أخرى.
هذا بدوره يزيد من تقدير الذات كون البشر أصبحوا يوظفون الوقت بحكمة أكبر. ومن ناحية أخرى، إن القيام بتنفيذ أي معاملة من خلال الجوال أو الإنترنت أي دون مساعدة أي شخص يعطي المستهلكين شعورًا بالتحكم وتحقيق الذات لا تحصل على مثله في المعاملات التقليدية. والمثال التالي يوضح الصورة بشكل أكبر:
مشروع العمر .. حوار مع البنك
وأنت جالس مع زوجتك وأولادك ذات صباح على ساحل البحر تستمتع بتغريدات العصافير التي تخبو تارة وترتفع تارة، بينما تراقب ارتفاع قرص الشمس بهدوء جاءتك فكرة مشروع تجاري شعرت للوهلة الأولى أنه المشروع الحلم الذي من شأنه أن يحدث نقلة نوعية في مستواك المادي. وكانت الفكرة هي "مزرعة تسمين الدجاج".
لكنك سرعان ما أدركت وجود عقبة صعبة في طريق هذا المشروع الطموح وهي عدم امتلاكك لرأس المال الكافي لتنفيذه. وعلى هذا الأساس رأيت أن تسلك المسلك الطبيعي الذي يسلكه الناس في هذه الحالة وقررت الذهاب إلى البنك والتقدم بطلب للحصول على قرض لتمويل المشروع. ومن هنا تبدأ رحلة جديدة:
في البداية ستذهب بنفسك إلى أقرب فرع للبنك وهناك سيستقبلك الموظف الذي سيطلب منك ملء بعض الاستمارات قبل أن يحدد لك ميعادًا مع المدير المختص بمنح القروض. تخرج من البنك وتذهب إلى بيتك الذي تحبس نفسك بإحدى غرفه لتبدأ في إعداد نفسك ذهنيًا ونفسيًا للقاء المزمع مع المدير حتى يتحقق لك المراد وتنجح في إقناعه بمشروع تسمين الدجاج.
قلقك وتوترك من هذا اللقاء ينبعان من حقيقة أن قرار إعطائك أو عدم إعطائك القرض يقع في يد ذلك المدير وحده، والذي قد يتأثر قراره بعوامل غير فنية مثل أنك كشخص لا تروق له، أو أنه لا يفهم طبيعة الصناعة التي تنوي الدخول إليها ولا يكبد نفسه عناء ذلك وبالتالي يرفض طلبك. وحتى لو وافق على طلبك، يبقى للبنك اليد العليا في تحديد الفائدة أو الرسوم.
هذا النظام يدفعك كعميل للشعور بالعجز، خاصة إذا تم رفض طلبك، لأنه لا سيطرة لديك على أي جزئية من سلسلة المعاملات هذه. ولكن الخبر السعيد هو أن المعادلة بدأت تتغير في السنوات الأخيرة بفضل التكنولوجيا التي جعلت المستهلك أو العميل هو الملك الذي يسعى الجميع لإرضائه.
الجمهور يمول المشروع
واحدة من أبرز تطبيقات التقنية المالية أو الـ"فنتك" هي فكرة الإقراض أو التمويل الجماعي والتي تسمح لك كصاحب فكرة بأن تعرضها للجمهور من خلال منصة إلكترونية على الإنترنت وتوضح رأس المال الذي تحتاجه ليبدأ المقتنعون منهم بها بالمساهمة بمبالغ مادية متفاوتة. وللمساهم الخيار: إما أن يقرض المشروع مقابل رسوم وإما يمتلك حصة فيه ليصبح من حقه الحصول على أرباح، وإما يتبرع له.
في ظل وجود خيار كهذا لم تعد فكرة مشروع تسمين الدجاج أسيرة للبنوك وتحكماتها، لأنه أصبح لديك خيار أكثر كفاءة من حيث الوقت والتكلفة والشفافية. وهذا يشكل تهديدًا قويًا وحقيقيًا للبنوك لأنه يضرب أحد أكثر منتجاتها ربحية وهي القروض في مقتل، لأنه ببساطة أصبح هناك بديل لها أرخص وأكثر كفاءة يمكن الحصول عليه بسهولة من الإنترنت.
وبالمناسبة هذا الخيار أصبح قريبًا من السوق السعودي أكثر من أي وقت مضى. ففي مايو الماضي أعلنت "ساما" عن الدفعة الثانية من شركات الـ"فنتك" المصرح لها بدخول البيئة التجريبية للتقنية المالية بالمملكة، والتي كان بينها شركات تركز على مجالي الإقراض الجماعي وخدمات المدفوعات.
الميزة الرئيسية التي تمتلكها تطبيقات الـ"فنتك" على حساب القطاع المصرفي التقليدي مصدرها الأساسي هو التأثيرات النفسية الإيجابية والخيارات التنافسية التي توفرها للعميل. فعلى سبيل المثال، في وجود خيار كالتمويل الجماعي، أنت كفرد ستشعر بنوع من التحكم والسيطرة لأن العرض الذي لن يعجبك سترفضه وتبحث عن غيره لأنه أصبح لديك وفرة في الخيارات بفضل التكنولوجيا التي أتاحت لك إمكانية الوصول لأعداد هائلة من الناس.
العميل السعيد
نفس الأمر ينطبق على تطبيق آخر من تطبيقات الـ"فنتك" وهو خدمات المدفوعات. فإذا كان هناك عشرات من مقدمي الخدمة الذين بإمكانك أن تتنقل بين خدماتهم بسهولة وبضغطة زر ستحصل على أفضل العروض لأن الكل سيتنافس عليك كعميل وسيبذل أقصى جهد لتلبية احتياجاتك بأقل تكلفة، بعد أن كنت عالقًا في بحر من الحلول الأحادية مع القطاع المصرفي التقليدي والتي لم يكن أمامك سوى قبولها والتكيف معها.
السؤال لك الآن: كمستهلك، كيف تشعر حيال الخيارات التي توفرها لك الـ"فنتك"؟ إذا عدنا لهرم ماسلو للاحتياجات نجد أنه بإمكاننا ربط التغيرات الإيجابية التي توفرها خدمات التقنية المالية بحاجة التطور الشخصي وتحقيق الذات، لأنك أصبحت أكثر رضا وتحكمًا عن وفي الخدمات المالية المقدمة إليك وهي خيارات لم تكن متاحة لك من قبل.
الفارق بين خدمات الـ"فنتك" والخدمات المالية التقليدية ينتقل مع مرور الوقت من كونه مجرد تغيير في السرعة إلى محرك للاختيار. وفي قادم الأيام سيعاقب المستهلك مقدم الخدمة الذي لا يستطيع أن يوفر له هذا المستوى من التحكم والمرونة والكفاءة. ببساطة، الحال يتبدل وأصبح المستهلك ورغباته وليست البنوك المحرك الرئيسي (الخفي) للتغيرات التي يشهدها سوق الخدمات المالية منذ سنوات.
إذا لم تحسن البنوك من خدماتها وتقدم ابتكارات جديدة بنفس السرعة التي تتطور بها التكنولوجيا فإنها ستجعل نفسها في وضع صعب وستخاطر بفقدان عملاء كُثر سيفضلون الخيارات الأكثر مرونة وكفاءة التي شركات الـ"فنتك" الناشئة.
باختصار، إن تباطؤ القطاع المالي التقليدي في أي مكان بالعالم – والمملكة ليست استثناءً – عن تطوير خدماته لتلبي توقعات المستهلكين في ضوء التقدم التكنولوجي الحالي سيخلق فجوة سلوكية كبيرة بين البنك والعملاء، سيعمل على شغلها بسرعة وفي لمح البصر منافسون جدد من خارج القطاع.
المصادر: أرقام – كتاب: Bank 3.0: Why Banking Is No Longer Somewhere You Go But Something You Do – دراسة: A Theory of Human Motivation
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}