في الأثر الشعبي، يقال إن فلانًا يعيش عيشة الأموات، في إشارة إلى معاناته والأعباء الملقاة على عاتقه وتؤثر على سلوكه وملامحه كما لو أنه "زومبي"، لكن هذا المثل الشعبي ربما يفقد معناه في فنزويلا، التي أصبح الموتى والأحياء فيها سواء يعانون من انهيار كل شيء.
تعاني فنزويلا من انهيار اقتصادي وأزمة سياسية معقدة، فبعد سنوات من تدهور الأوضاع المالية، وصل التضخم المفرط إلى مستويات مدمرة، ويقدر صندوق النقد بلوغه 10 ملايين في المائة هذا العام، ما يعني تواصل الضغط على القدرة الشرائية للمواطنين.
في أوائل سبتمبر الماضي، قال عضو لجنة المالية في البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة إن الفنزويليين الذين يحصلون على الحد الأدنى من الأجور يمكنهم تحمل تكلفة شراء 2% فقط من مكونات سلة الغذاء الأساسية.
البوليفار.. ورقة بلا قيمة
- تدهورت أوضاع البلد الغني بالنفط بسبب انهيار أسعار الخام في عام 2014، وفقدت عملته كامل قيمتها تقريبًا مقابل الدولار مع بدء طفرة الأعمال الصخرية في الولايات المتحدة.
- الأكثر من ذلك، أن صادرات البلاد النفطية آخذة في التراجع تزامنًا مع ضعف الموارد المالية اللازمة لأعمال صيانة منشآت الإنتاج والتصدير والعقوبات الأمريكية، وهبطت دون مستوى مليون برميل يوميًا حتى أنها بلغت 770 ألف برميل في أغسطس، قبل أن تتعافى قليلًا في سبتمبر.
- في أغسطس من العام الماضي، أمر الرئيس "نيكولاس مادورو" بحذف خمسة أصفار من العملة أملًا في استقرار قيمتها، في خطوة وصفها اقتصاديون بعملية احتيال، تساعد في تغيير المظهر فقط لا الواقع، وهو ما أثبتت الأيام صحته مع تواصل التدهور الاقتصادي.
- أستاذ هندسة الحاسوب "ألفارو"، صاحب الخبرة البالغة 24 عامًا في هذا المجال، من بين الأساتذة الجامعيين الأعلى أجرًا في غرب فنزويلا، إذ يتقاضى 37.2 ألف بوليفار شهريًا (13 دولارًا وفقًا لسعر الصرف الرسمي).
- خلال تسوقه، يحتاج "ألفارو" لـ4200 بوليفار أو ما يعادل 11% من راتبه الشهري لشراء لتر واحد من الحليب، وحال احتاج لكيلوجرام من الحليب المجفف فسيكون عليه دفع نحو 20 ألف بوليفار أو ما يزيد على نصف راتبه.
- هذه هي الرواية الأكثر شيوعًا في فنزويلا الآن، فالجميع يعاني جراء تراجع قيمة العملة بأكثر من 99%، وبالنسبة لـ"ألفارو" فقد انخفضت مدخراته بشكل حاد بعد تراجع قيمة راتبه إلى 2% فقط مما كانت عليه قبل 18 عامًا.
معاناة الموت وما قبله
- المعاناة في فنزويلا لا تنتهي بمجرد الموت، بل تبدأ معاناة جديدة تُبرز انهيار كل شيء في هذا البلد، الذي باتت الأزمة الاقتصادية فيه أشد وطأة من الكساد العظيم، وتسببت في حالة من الشلل بالمدن النفطية والمعروفة قديمًا برواج حركة التجارة فيها.
- حارس الأمن "نيرو فارغاس" هو مثال آخر على مرارة العيش (وحتى الموت) في فنزويلا، حيث توفي في اليوم السابع لوصوله إلى المستشفى في مدينة ماراكايبو مصابًا بطلق ناري في الرقبة.
- مخازن المستشفى الذي يقع في ثاني أكبر مدينة في فنزويلا ومحركها الصناعي كانت فارغة من مسكنات الآلام والمضادات الحيوية، فظل "فارغاس" يئن خلال الأيام التي سبقت توقف قلبه، وبعد وفاته كانت الكهرباء منقطعة في المستشفى الجامعي.
- نظرًا للفقر المدقع الذي يعيشون فيه، لم تتمكن أسرته من سداد رسوم الجنازة على الفور، فقرر الأطباء إبقاء الجثمان في المشرحة (غير المكيفة)، وحتى مع عودة التيار الكهربائي، لم تكن أي من أجهزة التبريد الثمانية تعمل.
- داخل المشرحة كانت الحشرات قد انتشرت وتجمعت على سبع جثث، ووُضع جثمان طفل متعفن داخل صندوق من الورق المقوى، واضطرت أسرة "فارغاس" ترك جسده في هذه الظروف ثلاثة أيام حتى تمكنت من اقتراض الأموال لتأجير نعش تنقل به الجثة إلى المنزل.
حتى الفرار لم يعد الخيار الأمثل
- بين صعوبة الحياة ومعاناة الموت، يندفع البعض إلى الفرار من البلاد أملًا في العثور على فرصة أخرى للعيش في مكان بعيد، وخلال الاضطرابات الأخيرة، غادر أكثر من أربعة ملايين فنزويلي بلادهم، وهي أكبر أزمة هجرة في تاريخ أمريكا اللاتينية الحديث.
- مع ذلك، أصبح الرحيل أكثر صعوبة، خاصة أن دول الجوار شددت سياسات الهجرة الخاصة بها، إلى جانب ما يتعرض له الفنزويليون من مضايقات من الجنود الذين يستولون على ملابسهم وأموالهم أثناء المغادرة، فيما يضطر البعض للرحيل عبر طرق غير شرعية تشرف عليها العصابات الحدودية.
- حتى أولئك الذين يحالفهم الحظ ويتمكنون من تجاوز أو عبور الحدود، عادة ما يكون لديهم القليل من المال لتوفير الغذاء والسكن نظرًا لضعف قيمة مدخراتهم عند تحويلها إلى دولارات، لكن الأسوأ الذي عليهم التعامل معه هو المناخ المناهض للهجرة في المجتمعات المجاورة.
- في هذه المجتمعات، كُره الأجانب آخذ في التزايد بفعل الهجرة الجماعية التي يعتقد البعض أنها تؤثر على مستويات المعيشة لديهم (كما في البرازيل وبيرو وغيرهما)، حيث يتهم السكان المحليون الفنزويليين بارتكاب الجرائم وسلب فرص العمل.
- تشير تقديرات مؤسسة "بروكينغز" البحثية، إلى أن عدد الفنزويليين المهاجرين قد يتضاعف إلى ثمانية ملايين خلال العامين المقبلين، ليتجاوز عدد الفارين من سوريا بفعل الحرب هناك، والبالغ 6 ملايين شخص.
المصادر: أرقام، يورو نيوز، واشنطن بوست، وول ستريت جورنال
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}