الفقر، الديون، ضعف مستوى الدخل وتردي المعيشة، أسقام لا يكاد يخلو منها أي اقتصاد حول العالم، حتى البلدان المتقدمة وعلى رأسها الولايات المتحدة صاحبة أكبر اقتصاد في العالم تتغذى على الاقتراض كي تستمر الحكومات في مواصلة عملها كما ينبغي، وتسعى جاهدة لتحسين أجور العاملين لديها.
معالجة هذه الأمراض يكمن في ترياق واحد وهو "المال" والذي إذا توافر لدى الحكومات فلن تكون بحاجة للاقتراض، ولن يكون هناك فقر في كثير من البلدان، ولن يعاني العاملون بعد ذلك من ضعف مستوى الدخل وعدم قدرتهم على تلبية أساسيات الحياة وتحسين مستوى المعيشة.
لكن إذا كان الحل الذي يبحث عنه العالم يتمحور حول أوراق البنكنوت تلك المزينة ببعض الرسوم والعلامات اللامعة والأرقام، وإذا كانت الحكومات تملك ماكينات طباعة يمكنها وضع هذه الرسومات على الأوراق في أجزاء من الثانية وإنتاج أكوام من الأموال، فلم لا يبدو حل مشكلات العالم بسهولة طباعة كتيب الإرشادات السياحية؟
هذا السؤال يبدو منطقيًا للغاية، وبالمناسبة هو شائع جدًا، لكن إجابته شائعة أيضًا، إذ لا يمكن للدول الإفراط في طباعة الأموال لتجنب تفاقم التضخم إلى الحد الذي لا تحمد عواقبه بعد ذلك، وهي حالة يقول عنها الاقتصاديون "سيصبح هناك الكثير من المال يطارد القليل من السلع".
ومع ذلك، فإن طباعة المزيد من الأموال ليست عملية مبغوضة من قبل الاقتصاديين وصناع السياسات، فهي ضرورة دائمة لمواكبة التطورات الاقتصادية في البلاد، لكن الأهم أن يتم ذلك وفق معايير محددة وألا يخضع لأهواء السياسيين أصحاب النظرة القاصرة والباحثين عن حلول آنية مؤقتة.
الطباعة باتت أمرًا طبيعيًا
- نظرًا لانتهاء ارتباط الاقتصادات بمعيار الذهب، أصبح من الممكن للبنوك المركزية زيادة حجم الأموال المتداولة بطباعتها، مع العلم أن طباعة الكثير منها لن يؤثر على مستويات الإنتاج في شيء، وبالتالي ستصبح الأموال نفسها أقل قيمة.
- طباعة الأموال هي إحدى أدوات البنوك المركزية للتحكم في المعروض النقدي، والذي يؤثر بشكل مباشر في معدلات التضخم ومستويات الأسعار، ومع بعض المتغيرات التي تؤثر في الإنتاج مثل النمو الاقتصادي والسكاني تكون بحاجة إلى زيادة النقود المتداولة إذا لم ترغب في انكماش الأسعار.
- مع ذلك، فإن طباعة المزيد من الأموال ليس الخيار الأول للبنوك المركزية عندما يتعلق الأمر بإدارة المعروض النقدي والسيطرة على التضخم، وهناك أدوات أخرى مثل ضبط سعر الفائدة وبرامج التيسير الكمي وتعديل متطلبات الاحتياطيات لدى البنوك.
- تظل هناك أسباب مختلفة ومنطقية لطباعة أموال جديدة، مثل استبدال العملات القديمة المتهالكة الجاري تداولها في النظام، لتلافي تعثر التدفقات النقدية خاصة مع الشركات، الأمر الذي قد يعرقل سداد المدفوعات والأجور وتباطؤ الإنفاق ككل، بحسب موقع "ويسلينج إن ذا ويند" المتخصص في النقاشات الاقتصادية والسياسية والتاريخية.
- السبب الأهم والأكثر منطقية لطباعة "المزيد" من الأموال، هو تنامي الاقتصاد، وهنا يصبح الأمر ضرورة مُلحة، فإذا كان هناك نمو اقتصادي وسكاني فلا شك سيزداد الطلب بشكل عام، ما يزيد بطبيعة الحال الطلب على المال لتلبية هذه الاحتياجات وتجنب تعثر الاقتصاد.
الجميع يطبع لكن كم؟
- وفقًا لما تم استعراضه بالأعلى، فإن طباعة المزيد من الأموال ليست دائمًا أمرا سيئا، لكنها أيضًا ليست دائمًا ضرورة وإلزاما، إذ يمكن أن تقود التضخم إلى الارتفاع بشكل هائل، لكن ما دامت لا تفعل ذلك فقد تساعد في تحفيز الاقتصاد.
- لا تحدد أغلب البنوك المركزية بشكل معلن قيم أو المعادلات التي تطبع وفقًا لها الأموال الإضافية، لكن عوامل مثل معدل الفائدة ومتوسط الصادرات والعجز المالي وغيرها، تؤخذ في الحسبان لضمان الحفاظ على قيمة العملة.
- عادة ما تطبع البنوك المركزية (في البلدان المتقدمة) ما يعادل 2% إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، في حين يتجاوز مقدار الطباعة هذه النسب في البلدان النامية، خاصة مع انتشار الأسواق السوداء التي تؤثر على توافر الأموال في القنوات الشرعية، بحسب موقع "ميديم".
- إذا زادت الدولة طباعة الأموال بمقدار 100 مرة على سبيل المثال، فإن الأسعار سترتفع غالبًا وفق هذا المعدل، لذا يجب أن تتم عملية الطباعة بتوازن دقيق مع قيمة السلع والخدمات المنتجة، ولعل ذلك يفسر كيف تنتشل البلدان الناشئة مواطنيها من الفقر عندما تطبع المزيد من الأموال بالتزامن مع الأداء الجيد للاقتصاد.
هل تصلح كأداة للخروج من الركود؟
- سواء في حالة الركود أو غيرها، لا يصح طباعة المزيد من الأموال إلا وفق معايير محددة، وأهمها كما ذكرنا هو نمو الإنتاج وتوسع الاقتصاد، وفقط إذا كان الاقتصاد يمتلك قدرات غير مستغلة، لكن إذا تم تسخير هذه الطاقة بالكامل سيكون أثر الطباعة سلبيًا.
- على سبيل المثال، إذا كانت الشركات (أو بعضها) داخل الاقتصاد تعمل بأقل من طاقتها الإنتاجية القصوى (بين 40% و60% مثلًا)، فإن العمل على زيادة الطلب سيكون مفيدًا ولن يؤدِّ إلى التضخم.
- لكن بمجرد تحقيق الإنتاجية القصوى أو حتى الاقتراب منها (بتجاوز نسبة تشغيل 90%) فإن هذه الشركات لن تكون قادرة على مواكبة الطلب المتزايد وستضطر إلى تحمل تكاليف إضافية لتلبية هذا الطلب، ما يتسبب في ارتفاع الأسعار.
- لذلك، فالحكمة القديمة تقول -تمامًا كما تنطبق على الكثير من الأمور في حياة البشر- "إن القليل من المال لا يضر، لكن الإفراط فيه سيفعل"، أما عن المبلغ الدقيق الذي ينبغي لكل دولة طباعته، فلا أحد يعرف على وجه التحديد، وتظل الإجابة حبيسة أذهان صناع السياسات الذين يتخذون القرار.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}