الدماء أكسير الحياة للجسد البشري، فهي تحمل الأكسجين إلى خلايا الجسم لتعمل بكفاءة، ثم تحمل ما لدى تلك الخلايا من فضلات ليعمل الجسم على تصفيتها وطردها خارجه، فضلًا عن وظائف أخرى متعددة.
وإذا اعتبرنا الاقتصاد مثل الجسد البشري، فإن "الخدمات اللوجستية" تقوم بوظيفة الدماء، فهي توفر للشركات احتياجاتها من الموارد التي تعينها على التشغيل، وتساعد في تخزين تلك الموارد بالصورة الملائمة، وتصل بالمنتجات النهائية إلى المستهلك، فضلًا عن عدد من الوظائف الأخرى، التي تعكس حيوية تلك الخدمات للاقتصاد بشكل عام.
ماذا تعني "لوجستية" تحديدًا؟!
كثيرًا ما يثير مصطلح "اللوجستية" اللغط، ففي بادئ الأمر كان يتم الإشارة إليه بوصفه عمليات نقل المواد الخام والمواد المصنعة نهائيًا ليصبح مرادفًا لخدمة النقل، ولكنه توسع كثيرًا ليشمل خدمات التخزين والنقل والتوزيع، بل وفي الآونة الأخيرة توفير المعلومات والبيانات والاستشارات وغيرها من أشكال "المساعدة" للأعمال.
ويعتبر "فيليب كوتلر" أستاذ الإدارة والتسويق الشهير الخدمات "اللوجستية" بمثابة إمداد الشركة بما تحتاجه من موارد في الوقت المناسب، مقابل إيصال منتجاتها للمستهلكين في الوقت المناسب أيضًا، لتكون الصورة "التقليدية" للخدمات "اللوجستية" هي خدمات النقل والشحن والتخزين، فضلًا عن صورتها الحديثة الأوسع كثيرًا.
وكثيرًا ما تعتبر "فيديكس" لخدمات النقل أحد أبرز الأمثلة في مجال الأعمال للشركات التي تقدم "خدمات حقيقية" وحققت نموًا لافتًا، فالشركة التي ظهرت عام 1971، أصبحت إحدى أكبر 200 شركة في العالم، وبحجم مبيعات تخطى 60 مليار دولار عام 2017 ويعمل بها 395 ألف موظف.
واستغلت "فيديكس" حاجة البنوك والشركات الصغيرة والكبيرة والأشخاص على حد سواء إلى خدمات النقل والشحن الجوي وتصاعد الحاجة إلى تلك الخدمة، حيث تقوم بإيصال 3.4 مليون طرد في المتوسط يوميًا، بينما يصل الرقم نفسه إلى 15.8 مليون طرد لشركة "يو.بي.إس" على سبيل المثال.
وتشير "فوربس" إلى أن تأثير شركات النقل والشحن ينعكس في وجود حوالي أكبر 25 شركة عامة في هذا المجال ضمن قائمتها لأكبر 500 شركة حول العالم ويحتل غالبيتها الترتيب بين الـ160-300، حتى أن سكك حديد اليابان ممثلة بأكثر من شركة، لشرق البلاد ووسطها وغربها، بسبب اعتماد طوكيو على السكك الحديدية لتلافي عقبات النقل الطبيعية في البلاد.
نحو اقتصاد الوفرة
ووفقا لتقرير لمجموعة "آسيان"، تساهم الخدمات اللوجستية في تحقيق الوفرة في الاقتصاد بشكل عام، فقيام شركة شحن باستئجار مركب لشحن 10 أطنان من المنتجات، يكون أرخص كلفة وأعلى فاعلية من استئجار أكثر من شركة لأكثر من سفينة لتشحن منتجاتها منفردة، لتستفيد كافة الشركات من وفورات اقتصاديات الحجم الكبير، وتقليل نسبة التكلفة الثابتة على كل سلعة بسبب زيادة نسبة الحركة.
وتشير دراسة لجامعة "ييل" حول أهمية الخدمات اللوجستية إلى أن قيمة الخدمات التقليدية اللوجستية، من نقل وتخزين، تتعد 750 مليار دولار سنويًا حول العالم (2016)، وأنها تعد أحد أكثر المجالات نموًا خلال العقد الأخير بنسبة تمو تناهز 40%، بما يعكس انتعاشًا للخدمات اللوجستية على الرغم من قدمها، حيث بدأت تقريبًا مع الثروة الصناعية، بل ويرى البعض ارتباطها بالقوافل التجارية القديمة، ولكن بصورة اقل تعقيدًا.
ويمتد تأثير الخدمات اللوجستية من الشركات إلى الدول، بالإشارة إلى عائدات 5-20% على الطرق التي يتم مدها، في حالة التخطيط الجيد للاستفادة منها بطبيعة الحال، وتزداد تلك النسبة وفقًا لمدى حاجة الدول إلى مد طرق بها، وبالتالي تزيد في الدول النامية عنها في المتقدمة.
ومع التطور التكنولوجي يلاحظ تغير تأثير ونوعية الخدمات اللوجستية على النمو في الدول المختلفة، حيث كشفت دراسة لجامعة إسطنبول حللت عوامل النمو في الدول المتقدمة عدم وجود رابط بين تزايد معدلات النمو والتطور في البينة التحتية التقليدية، النقل والطرق والطيران، في الوقت الذي يرتبط فيه النمو طرديًا مع التطور في الاتصالات بمختلف أنواعها لما توفره من قدرة أكبر على المرونة في الإنتاج وتوفير للوقت والموارد.
تطور الخدمات اللوجستية
ولذلك تبرز شركة مثل "أوراكل" التي تعمل في مجال إعداد قواعد البيانات أهمية الأشكال الحديثة للدعم اللوجيستي، فبتوفيرها لقواعد البيانات لآلاف الشركات حول العالم تمكنت الشركة من أن تصبح ثاني شركات العاملة في البرمجة (وليس التكنولوجيا بشكل عام) بعد "مايكروسوفت" بعائدات تصل إلى 17 مليار دولار (2017).
وتبرز أيضًا الشركات "اللوجستية العالمية" التي تعمل على الاستفادة من الصبغة العالمية التي يتمتع بها الاقتصاد حاليًا، وعلى رأسها شركات الدعم الفني للاتصالات، مثل "أورانج" و"إيه.تي.أند.تي"، حيث يقوم عمل تلك الشركات على توفير شبكة ربط متقدمة وسريعة الاستجابة بين مواقع عمل الشركات المختلفة تسمح باستخدام شبكة الإنترنت وأجهزة "المودم" لضمان تكامل العمليات الإنتاجية.
ولتوضيح الأمر، فإن شركة مثل "سوني" على سبيل المثال تعمل في عشرات الدول في الإنتاج والتسويق، ولذا يلزم أن يكون لديها نظام ربط، لا سيما بين مواقع الإنتاج، يتعدى فكرة الاتصالات التقليدية إلى وجود نظام "سيستم" واحد للربط بين مختلف مواقع الشركة في مختلف أنحاء العالم وهو ما تقوم "أورانج" و"إيه.تي.أند.تي" بتوفيره.
وتحصد "إيه.تي.أند.تي" ثروة من وراء ذلك وساهم في بلوغ إيراداتها 160 مليار دولار سنويًا (2017)، وتمكنت من خلال ممارسة تلك الوظائف الحيوية للكثير من الشركات من تنمية حجم أصولها إلى حوالي 445 مليار دولار، وبدخل صاف في حدود 30 مليار دولار، وعلى الرغم من أن أنشطتها كلها ليست في هذا المجال، إلا أن جزءا كبيرا منها يقوم عليه.
مستقبل الخدمات اللوجستية
وتعتبر دراسة لمجموعة "بي.دبليو.سي" الدولية لدراسة الأعمال مستقبل اللوجستيك في المرحلة المقبلة في شركات مشابهة لـ"أمازون"، وشركات البيع المباشر على الإنترنت بشكل عام، وذلك للعديد من الأسباب، أهمها أنها توفر صورة واضحة عن شكل السوق والمنتجات المرغوبة وغير ذلك، وتعطي للمنتج ردود فعل المستهلك، وهو ما يدفع الأول أموالًا تقليديًا لمعرفته من خلال شركات أبحاث السوق.
كما تساهم تلك الشركات في إبقاء العرض والطلب أكثر توازنًا، من خلال منافسة واضحة آنية، لا تصل لتعريف المنافسة الكاملة في الأدبيات الاقتصادية لكنها أكثر شفافية من المنافسة التقليدية، وبالتالي تسهم في تقليص الشركات لمخزونها والتخفيف من تكلفة النقل وهو أحد الأهداف الرئيسية للشركات المُقدمة للخدمات اللوجستية.
وتشير دراسة لمنظمة "ترانسبورت جيوجرافي" إلى أن النقل يشكل وحده 6-12% من اقتصاديات الدول المتقدمة، وأنه بتوسيع مفهوم الخدمات اللوجستية لتحمل الصور الحديثة منها، فإنها تصل ربع حجم الناتج المحلي الإجمالي في كثير من الدول، وأنه من المرجح أن تنمو هذه النسبة مع تزايد التخصص في أعمال النقل والتكنولوجيا والاستشارات.
ووفقًا لكلية "هارفارد" لإدارة الأعمال فإن الخدمات اللوجستية تحقق للشركات عددا من الفوائد أهمها:
- تخفيض المخزون: من خلال خطوط النقل الممتدة بين العديد من الدول يمكن للشركات الاعتماد على قدرة شركات الشحن في إمدادها بما تحتاج من مواد خام أو إمداد العملاء بالسلع النهائية، وتشير دراسة للكلية إلى أنه مقابل كل دولار يتم إنفاقه على خدمات الشحن يتم توفير 3-4 دولارات من الإنفاق على التخزين، فضلًا عن تجنيب الشركات لوضع جزء من رأس المال بلا استخدام حرصًا على انتظام عمليات الإنتاج أو إرضاء العميل.
- توفير النفقات: إذا احتاجت شركة لخدمات النقل أو الاتصالات أو حتى الاستشارات الإدارية أو غيرها فإنه سيكون عليها إما أن تعين موظفين وتشتري معدات للنقل والاتصالات أو تستأجر خدمات الدعم اللوجستي وفي كثير من الأحيان يكون الخيار الثاني مفضلًا نظرًا لأكثر من سبب أهمها تجنب تبديد الأموال في غير مجال الشركة الرئيسي.
- خدمات أكثر احترافية: فشركات الشحن والدعاية والإعلان وتكنولوجيا الاتصال تتخصص في مجالها بصورة كبيرة وتنفق فيه مبالغ طائلة في الأبحاث للعمل على تحسينه، مما ينعكس إيجابًا على مستوى الخدمة وعلى الإنتاجية أو درجة الاعتمادية على الخدمة المقدمة.
وختامًا، ولتبيان أهمية الخدمات اللوجستية يكفي ذكر أنها تستخدم في الحروب للإشارة لسلاح "الإمداد والتموين"، كما وظفها "نعوم تشوميسكي" في كتابه "من يحكم العالم؟" في التأكيد على الصراع المستمر بين القوى الدولية حول من يستطيع التحكم في خطوط نقل الموارد وأماكن إنتاجها، بل ويحظى بالنفوذ في أماكن توزيع المنتج النهائي، لتبدو الشركات دون خدمات لوجستية كجيش فقد خطوط إمداده أثناء الحرب، أو شرايين بلا دماء تضخ الحياة في الجسد البشري.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}