نبض أرقام
09:07 م
توقيت مكة المكرمة

2024/11/24
2024/11/23

الإخوة الأعداء .. هل يستحق النفط موت أكثر من 100 ألف إنسان؟

2018/07/13 أرقام - خاص

جيش من الطائرات والدبابات والمدافع الرشاشة تحرك من بوليفيا في اتجاه جارتها باراجواي لتُشعل شرارة صراع استمر لثلاث سنوات (1932- 1935) – كانت هي الأكثر دموية في تاريخ أمريكا اللاتينية – من أجل السيطرة على منطقة "جران تشاكو" الحدودية التي كان يعتقد خطأً أنها تعوم على بحر من النفط.

 

 

وقعت مقتلة عظيمة بين البلدين الجارين اللذين كانا يعتبران من أفقر دول العالم راح ضحيتها أكثر من 100 ألف إنسان، لتفقد مئات الآلاف من العائلات – على الجانبين – شبابها وعائليها. ولكن الأكثر ألماً من فقدان هؤلاء لأرواحهم، أنهم فقدوها من أجل اللاشيء.

 

بوليفيا – التي حظيت بدعم شركة النفط الأمريكية "ستاندرد أويل أوف نيوجيرسي" – وباراجواي التي وقفت وراءها "رويال داتش شل" – ضحتا برجالهما من أجل السيطرة على قطعة أرض قاحلة غير مأهولة، بعد أن تم الإيعاز لهما بأن هناك ثروة نفطية هائلة ترقد تحتها. انتهت الحرب، واتضح لاحقاً أن الأجانب أخطأوا في تقديراتهم ولم يكن هناك نفط.

 

مجرد احتمال

 

في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، اكتشفت شركة النفط الأمريكية "ستاندرد أويل أوف نيوجيرسي" عددا من حقول النفط الصغيرة في التلال المحيطة ببلدة فيلا مونتيس الواقعة في جنوب شرق بوليفيا على الحافة الغربية لمنطقة "جران تشاكو" الحدودية.

 

"جران تشاكو" عبارة عن سهل مساحته 250 ألف ميل مربع ينقسم بين كل من بوليفيا وباراجواي والأرجنتين. وهي أرض قاحلة لا يوجد بها زرع ولا ماء ولا بشر، الحرارة فيها تتجاوز 47.5 درجة مئوية، وقبل اندلاع الحرب بين الجارتين كانت المنطقة تشتهر بالأمراض والثعابين السامة والحشرات القاتلة.

 

حين يتم وضع تلك الصورة في الاعتبار يصبح من الصعب على أي عاقل تخيل أن دولتين فقيرتين لديهما ما يكفي من المشاكل المالية قد تتورطان في حرب دموية من أجل السيطرة على هذه المنطقة المقفرة. وبالفعل، كانت باراجواي وبوليفيا تتناوشان من آن لآخر، ولكن البلدين غير الساحليين لم يكونا مهتمين بفرض سيطرتهما الفعلية على المنطقة إلى أن ظهرت الشائعات التي تتحدث عن النفط.

 

 

عقب اكتشاف النفط في فيلا مونتيس بدأ الفريق الجيولوجي التابع لـ"ستاندرد أويل" يتساءل عما إذا كان هناك المزيد من النفط في قلب المنطقة المتنازع عليها. ورغم عدم وجود أي دليل يدعم ذلك الاحتمال، لم يكف الفريق عن التفكير في الأمر، واعتقد بعضهم أن "تشاكو" هي تكساس – الولاية الأمريكية الغنية بالنفط – أمريكا الجنوبية.

 

لم تبق فكرة وجود ثروة نفطية هائلة في "جران تشاكو" سراً طويلاً. فجأة انتشرت الإشاعة وأصبح طرفا النزاع مقتنعين بأن المنطقة ترقد على بحر من النفط، ويجب أن يسيطر عليها أحدهما. وهكذا، بالنظر إلى الخيار بين حرب تعدهم بثروة هائلة وبين سلام لم يمنحهم سوى الفقر، اختار الجانبان الحرب.

 

حرب بالوكالة

 

باستخدام خط ائتمان سخي من "ستاندرد أويل"، اشترى الجيش البوليفي أسلحة من السوق الأوروبي، شملت دبابات بريطانية وطائرات ألمانية ومدافع رشاشة وبطاريات مدفعية، وقاموا حتى باستئجار ضباط من الجيشين التشيكي والألماني، لينضموا إليهم في الحرب ضد جارتهم.

 

ساهمت هذه المشتريات في خلق تفوق عسكري (نظري) واضح لبوليفيا على باراجواي التي كان جيشها يملك مسدساً واحداً فقط لكل ثلاثة جنود، ولم تقدر على جذب سوى 107 جنود من تشيلي للقتال إلى جانبها، غير أن الأخيرة تمكنت لاحقاً من شراء السلاح هي الأخرى، بعد أن حظيت بدعم "رويال داتش شل" التي منحتها حقوق استكشاف النفط في تشاكو.

 

اللافت للنظر هو أن طرفي الحرب اشتريا السلاح من نفس الجهة، وهي شركة "فيكرز" المملوكة لتاجر السلاح اليوناني الشهير "باسل زهاروف" والذي وصفته الصحافة بأنه "رجل أوروبا الغامض"، كما أطلق عليه من قبل كثيرين لقب "تاجر الموت".

 

 

في الثلاثين من مايو/أيار 1934، قال السيناتور الأمريكي "هيوي لونج" في خطاب ألقاه أمام مجلس الشيوخ، إن ما أشعل نيران حرب "تشاكو" هي قوى التمويل الإمبريالي، معتبراً أن باراجواي هي المالك الشرعي لمنطقة "تشاكو"، ولكن "ستاندرد أويل" التي أطلق عليها لقب "مروج الثورات في أمريكا الجنوبية" اشترت ذمة الحكومة البوليفية لتشن الحرب على جارتها، بعد أن رفضت باراجواي منحها امتيازات نفطية.

 

كان "لونج" مناصراً واضحاً لباراجواي ضد بوليفيا. ففي خطاب آخر له حول الحرب ألقاه في قاعة مجلس الشيوخ في 7 يونيو/تموز 1934 وصف "لونج" مسؤولي "ستاندرد أويل" باللصوص الجشعين والمتآمرين.

 

ونتيجة لذلك، أصبح بطلاً قومياً في باراجواي، لدرجة أنه بعدما استولت باراجواي على حصن بوليفي في صيف عام 1934، أطلقوا عليه اسم "لونج".

 

ضعف خططي وتكتيكي

 

بوليفيا التي خسرت كل حرب خاضتها حتى ذلك الوقت، اختارت الجنرال الألماني المتقاعد "هانز كوندت" لقيادة جيشها الجديد في الحرب المزمع شنها على جارتها. كان "كوندت" شخصية أسطورية بالنسبة للبوليفيين، الذين انبهروا بحقيقة كونه جنرالاً سابقاً بالجيش الألماني.

 

كان "كوندت" موهوباً من الناحية التنظيمية ومحبوباً من قبل الجيش البوليفي وقادراً على ضبط النظام به، ولكن المشكلة هي أنه لم يكن لديه الكفاءة التي تؤهله لقيادة جيش في قتال حقيقي. مثله مثل العديد من البوليفيين اعتقد "كوندت" أن الحرب انتهت قبل أن تبدأ استناداً إلى حقيقة أن الجيش البوليفي يتمتع بتفوق عددي ولوجيستي كبير على باراجواي.

 

لم يقم "كوندت" بتنظيم خطوط الإمداد، ولم يخطط لكيفية سير العمليات القتالية على المدى الطويل، حتى أنه لم يقم بزيارة منطقة تشاكو ولو لمرة واحدة من أجل فهم التضاريس والظروف المناخية للمنطقة التي سيقاتل فيها.

 

على الأغلب كانت خطته كالتالي: 1: سنهاجم 2: سيحدث ما سيحدث 3: ستستسلم باراجواي 4: موكب النصر!!

 

في البداية سارت الأمور على نحو جيد بالنسبة للبوليفيين، مستفيدين من تفوقهم العددي الواضح على الباراجوايين، واستولوا على مجموعة من المواقع التي تركها جيش باراجواي دون أي دفاع، لضعف أهميتها الاستراتيجية. ولكن كلما توغلوا أكثر في عمق المنطقة زادت الأمور صعوبة عليهم.

 

 

باراجواي الدولة الصغيرة التي عانت لقرون من جور جيرانها الأقوياء عليها، وبالتحديد الأرجنتين والبرازيل اللتين جرداها مما يزيد على نصف أراضيها وقتلتا معظم شبابها، رفضت تكرار ذلك المصير البائس، وامتنعت عن تسليم أرض تشاكو القاحلة إلى مهاجميهم البوليفيين.

 

المواقع الباراجواية التي اعتقد الجيش البوليفي أنه بإمكانه السيطرة عليها بسهولة، لم تسقط وصمدت تحت الحصار. وقام الباراجوايون بتحويل الحرب إلى حرب عصابات وخنادق، وزرعوا الألغام في طريق البوليفيين ونصبوا لهم الفخاخ وجذبوهم إليها. وبدلاً من اللغة الإسبانية تواصل أفراد جيش باراجواي باللغة الجوارانية الأصلية، مما أبقى البوليفيين مرتبكين وغافلين عن تحركاتهم.

 

المشكلة الثانية التي واجهت "كوندت" هي الماء. بينما يستمر البوليفيون في التقدم في تلك الأراضي القاحلة، مات العديد من الجنود جراء العطش والجفاف. وبعد فترة وجيزة، وجد عشرات الآلاف من الجنود البوليفيين أنفسهم يتجولون في تشاكو يائسين دون ماء يخافون من أن يباغتهم أعداؤهم من أي جانب. ولذلك سميت تلك الحرب بـ"حرب العطش".

 

تلك الدماء .. في رقبة من؟

 

بعد 6 أشهر من اندلاع الحرب، انهار التقدم البوليفي في منطقة تدعى نانواوا بعد أن أمر "كوندت" الجيش بشن هجمات متكررة على موقع محصن بشدة من قبل جيش باراجواي، مما تسبب في مقتل الآلاف من الجيش البوليفي، والذي بدأت قواه تستنزف على خلفية فقدانه للكثير من عناصره وضعف الإمدادات والجفاف.

 

في تلك اللحظة شن جيش بارجواي – الذي كان يعتقد أنه ضعيف – هجوماً مضاداً على الجيش البوليفي بطريقة جعلت صده أو مقاومته مستحيلة. وفجأة اضطر ما تبقى من الجيش البوليفي إلى الفرار في رعب مع قائدهم دون خطة انسحاب، تاركين وراءهم أسلحتهم ومعداتهم.

 

رغم حالة الضعف التي أصابت الجيش البوليفي في نهاية الحرب، لم يكن هناك فائز واضح في النهاية. فكلا البلدين استنزفت حرفياً قوتهما ومواردهما المالية المحدودة أصلاً، لذلك اتفقا على وقف إطلاق النار في ظهر العاشر من يونيو/تموز 1935، وهي الخطوة التي مهدت لمعاهدة بوينس آيرس في عام 1938 التي أعطت ثلاثة أرباع الأرض المتنازع عليها لباراجواي.

 

 

خرجت بوليفيا وباراجواي من الحرب مدمرتين نفسياً، بعد أن فقدتا أكثر من 100 ألف من رجالهما في صراع اتضح أنه لا فائدة منه. بوليفيا خسرت 65 ألف رجل وهو ما مثل نحو 3% من سكانها، في حين فقدت باراجواي 36 ألفاً، أو 2% من سكانها.

 

ولكن ماذا عن النفط الذي اقتتلت الجارتان لأجله والذي كان من المفترض أن يجعل الفائز منهما ثرياً؟ بعد انتهاء الحرب وسيطرة باراجواي على أغلب المنطقة، بدأت "رويال داتش شل" في الحفر، ولكنها لم تعثر على برميل واحد من النفط في أرض تشاكو القاحلة المروية بدماء أكثر من مائة ألف إنسان – 5 أفراد لكل ميل مربع – وهكذا خرجت باراجواي وبوليفيا ومن ورائهما "ستاندرد أويل" و"شل" خاليي الوفاض.

 

في النهاية، لا يسعنا كقراء للتاريخ سوى التأمل في تلك الأحداث، ومحاولة استخلاص الدروس والعبر منها. يقولون التاريخ يعيد نفسه، وعلى الرغم من أن هناك من لا يؤمن بتلك المقولة، إلا أن هناك حقيقة واضحة لا جدال فيها، وهي أن من لا يقرأ التاريخ يرتكب أخطاء من سبقوه.

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.