داخل شقة سكنية سرية في مبنى تحيط به الأشجار يقع على بعد أمتار من غرب حي "هارلم" الشهير بمنطقة مانهاتن، أشهر مناطق مدينة نيويورك الأمريكية، تجمع مجموعة من أشهر علماء الرياضيات في التاريخ، وتمكنوا خلال فترة مكوثهم بهذه الشقة من التوصل إلى معادلات غيرت مجرى أهم حرب في التاريخ المعاصر، وأنقذت مئات الآلاف من الأرواح البشرية.
كان الناس الذين يعبرون من أمام هذا المبنى لا يعرفون أن فوق رؤوسهم يتم إنجاز بعض من أهم التطورات التي شهدها مجال الرياضيات التطبيقية من قبل مجموعة من العباقرة الذين تم تجنيدهم من قبل البيت الأبيض ليصبحوا عملاء لصالح الجيش الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية.
من جامعات: كولومبيا وبنسلفانيا وهارفارد وبرينستون وبراون وأخرى غيرها (11 جامعة إجمالًا) أتى هؤلاء العلماء لمساعدة الجيش الأمريكي في صراعه ضد دول المحور بزعامة ألمانيا النازية.
طبيعة عملهم كانت كالتالي: في حال واجه أي قائد بالجيش مشكلة تتعلق بالآلات والمعدات العسكرية مثل الصواريخ وأجهزة الرادار وحاملات الطائرات والطائرات المقاتلة، يقوم بإرسال طلب إلى رئيس هذا التجمع من العلماء المقسم إلى فرق ذات تخصصات مختلفة، والذي يقوم بدوره بإعطاء المهمة للفريق الذي يعتقد أنه القادر على حل المشكلة.
بعد أن يتمكن الفريق من حل المشكلة، يتوجه أعضاؤه إلى واشنطن ويلتقون بكبار العسكريين والمستشارين ويشرحون لهم كيفية حل هذه المشكلة. كان الأمر أشبه بطلب الدعم الفني، ولكن من خبراء عباقرة في الرياضيات في محاولة لكسب أكبر صراع عالمي شهده الكوكب.
أين نضع الدروع؟ .. العبقري النمساوي
- من بين كل الإنجازات العلمية التي حققتها هذه المجموعة يبرز إنجاز عالم الرياضيات النمساوي "أبراهام والد" باعتباره الأشهر والأهم، حيث تمكن الرجل من إنقاذ حياة الآلاف من الجنود الأمريكيين من خلال منع القادة العسكريين من ارتكاب خطأ بشري شائع، الكثير منا ربما يقع فيه كل يوم.
- في السنوات الأولى من الحرب العالمية الثانية كانت فرص عودة أطقم المقاتلات القاذفة إلى القواعد سالمة شبه منعدمة تقريبًا، كان الأمر أشبه بمهمة انتحارية، لأنها بمجرد أن تدخل أجواء العدو تنهال عليها الطلقات من كل حدب وصوب. ولكن الجيش الأمريكي آمل أن يساعده علماء الرياضيات في تحسين فرص هؤلاء الطيارين في العودة سالمين.
- مثل أي مشكلة أخرى، وضعت القيادة العسكرية بين أيدي علماء الرياضيات كل ما يعرفونه، وتم إعطاء هذه المهمة لـ"والد" وفريقه الذي وجه إليه سلاح الجو الأمريكي السؤال التالي: هل تستطيعون مساعدتنا في تحسين فرص نجاة المقاتلات القاذفة من نيران العدو؟
- أوضح المهندسون العسكريون لـ"والد" وفريقه أنهم يعرفون بالفعل أن هذه الطائرات في حاجة إلى مزيد من الدروع، ولكنهم في النهاية لا يمكنهم تغطيتها كالدبابات لأنها لن تستطيع الإقلاع في هذه الحالة، ولذلك هم يرغبون في معرفة أكثر الأماكن في جسد الطائرة حاجة إلى الدروع.
- في هذه اللحظة أنقذ "والد" الجيش الأمريكي من الوقوع فريسة لما يسمى بـ"الانحياز إلى الديمومة" (Survivorship Bias) وهو خطأ كان من الممكن جدًا أن يغير مجرى الحرب إذا لم يلاحظه أحد وقام بتصحيحه. وفي الحقيقة هذا الخطأ يقع فيه الخبراء قبل الهواة.
- راقب سلاح الجو الأمريكي الطائرات العائدة من أراضي العدو، وسجل أكثر أجزاء الطائرة تعرضًا للضرر، وكرر هذه العملية أكثر من مرة، وخلص إلى أن معظم الطلقات التي تلقتها هذه الطائرات تتراكم على طول الأجنحة وبالقرب من المدفع الخلفي وفي منتصف جسد الطائرة.
- السؤال لك الآن: بالنظر إلى هذه البيانات ما هي أفضل الأماكن لوضع الدروع الإضافية؟ هل هي الأجنحة والمدفع الخلفي وجسد الطائرة، الأماكن الأكثر تعرضًا للضرر والتي تتجمع بها ثقوب الطلقات؟ هذا كان رأي القادة العسكريين الذين اعتقدوا أن المنطق يشير إلى أنه يجب وضع حماية أكثر لتلك المناطق.
- لكن "والد" عارض هذا الرأي بشدة، ورأى أنه خاطئ دون شك. قال لهم: "وضع الدروع في هذه المناطق لن يحسن فرص نجاة هذه الطائرات على الإطلاق". الاستنتاج الذي توصل إليه القادة العسكريون والذي يبدو لأغلبنا منطقياً جدًا كان في الحقيقة فكرة حمقاء. هل تعرف لماذا؟
- على عكس ما ذهب إليه الجميع، رأى "والد" أن الأماكن التي تتجمع بها ثقوب الطلقات هي في الحقيقة تشير إلى أقوى الأماكن في جسد الطائرة، أو الأجزاء التي يمكن أن يطلق عليها النيران ولا تؤثر على فرص نجاة الطائرة وعودتها سالمة.
- أشار "والد" إلى أن هذه الطائرات تحتاج إلى دروع في أقل المناطق إصابة بالطلقات، لأن الطائرات التي لم تنج ولم تنجح في العودة وبالتالي لم تشملها الدراسات التي أجراها العسكريون أصيبت على الأغلب في هذه المناطق.
- قال لهم: انظروا إلى الطائرات الناجية وحددوا المناطق التي لم تصب بأذى، وضعوا الدروع في هذه المناطق، لأن هذه هي الأماكن الأكثر خطورة وحيوية في جسد الطائرة. والطائرات التي لم تنج لم تعد إلى قواعدها لأنها ضربت في هذه المناطق.
- الجيش الأمريكي كان يمتلك أفضل البيانات المتاحة في ذلك الوقت، ورغم ذلك فشل كبار قادته في رؤية العيوب الموجودة في منطقهم. وكان من الممكن جدًا أن يقوموا بإضافة دروع لا جدوى لها إلى جسد الطائرات لولا تدخل "والد" الذي قضى حياته المهنية في التدرب على اكتشاف الخطأ البشري.
خطورة التركيز على الناجحين فقط
- في الحقيقة هذا الخطأ الساذج يقع فيه أغلبنا بشكل يومي تقريبًا. ببساطة "الانحياز إلى الديمومة" يجعلنا نميل إلى التركيز على الأحياء وتجاهل الموتى، على الفائزين وتجاهل الخاسرين، أو على النجاحات وتجاهل حالات الفشل. في حالة "والد" ركز الجيش الأمريكي على الطائرات الناجية ووقع في خطأ رهيب لأنه تجاهل تلك التي سقطت.
- أخطر ما يتعلق بهذا التحيز هو أنه من السهل جدًا الوقوع فيه. بالنسبة لنا، من يفشل يصبح غير مرئي، وبطبيعة الحال نركز بشكل أكبر على الناجحين. وبسبب هذا التحيز نحن لا نقوم فقط بتفويت معلومات هامة من شأنها التأثير على قراراتنا، بل نحن في الحقيقة لا ندرك أن هناك أي معلومات مفقودة على الإطلاق.
- على سبيل المثال، قد تفكر في فتح مطعم بالمنطقة التي تعيش فيها لأنك ترى حولك الكثير من المطاعم الناجحة. المشكلة هي أنك بينما تتخذ هذا القرار لا تدرك أن هذه المطاعم هي فقط من تمكنت من النجاة من بين الكثير من المطاعم التي أغلقت أبوابها، وبهذه الطريقة أصبحت أمثلة ماثلة أمامك. واهتمامك بهذه الأمثلة فقط هو أشبه بالالتفات إلى جانب واحد من المعادلة وإهمال الجانب الآخر.
- ربما تفشل 90% من المطاعم في المنطقة التي تعيش بها خلال السنة الأولى، ولكنك لا ترى هذه الإخفاقات لأنها عندما تفشل تختفي من على الساحة كأن لم تكن. وكما كتب "نسيم طالب" في كتابه "البجعة السوداء": "إن مقبرة المطاعم الفاشلة صامتة جدًا". لا أحد يتحدث عن فشله.
- تجاهلك أو عدم معرفتك بوجود الكثير من المطاعم الفاشلة يجعلك تنظر إلى مجال المطاعم على أنه مجال واعد يمكنك الدخول إليه والنجاح فيه بسهولة، وذلك لأنك لا ترى أمام عينيك سوى المطاعم الناجحة. ولكن إذا جاء أحدهم ووضع الصورة كاملة أمام عينيك، وأخبرك بأن نسبة النجاح في هذا المجال لا تتعدى 10%، هل ستظل متحمسًا لهذا المشروع؟ قد تظل ترغب في الدخول إلى هذا المجال، ولكن حساباتك ستتغير بالتأكيد.
صناعة الاستثمار .. تضخيم غير حقيقي للنتائج
- في صناعة الاستثمار أيضًا يعتبر "الانحياز إلى الديمومة" أحد أكثر الأخطاء شيوعًا بين المحللين ومديري المحافظ ناهيك عن الأفراد العاديين. يتسبب هذا التحيز في تشوهات كبيرة بدلالات الأرقام والبيانات والتي تؤدي بدورها إلى قرارات استثمارية خاطئة.
- يحدث هذا التحيز عندما يحاول المحلل حساب نتائج أداء مجموعة من الاستثمارات، مثل الصناديق أو الأسهم الفردية، ويعتمد خلال قيامه بتلك العملية على البيانات الخاصة بالاستثمارات الناجية فقط التي تتم معاملتها كعينة شاملة ممثلة للسوق، متجاهلًا تلك التي لم تعد موجودة.
- على سبيل المثال، لنفترض أن السوق السعودي كان يوجد به 100 صندوق مشترك في بداية عام 2017، ولكن خلال العام تم إغلاق 10 صناديق، ولم يبق سوى 90 صندوقًا مع حلول نهاية العام. الكثير من المحللين حين يحاولون قياس أداء صناعة الصناديق المشتركة يقومون بحساب متوسط أداء الصناديق الـ90 الناجية، متجاهلين تلك التي أغلقت لأنها لم تعد موجودة.
- الصناديق العشرة التي أغلقت خلال العام لم تغلق إلا لأنها حققت نتائج سيئة، وحذفها من النتائج النهائية للصناعة يؤدي إلى المبالغة في تقدير أداء الصناديق المتبقية. وهكذا تبدو صناعة الصناديق المشتركة أكثر جاذبية مما هي عليه في الواقع.
- أخيرًا، هناك مفهوم خاطئ منتشر بين الكثيرين مفاده أننا يجب أن نركز على الناجحين إذا رغبنا في أن نصبح مثلهم يومًا ما. ولكن المشكلة هي أنه عندما يكون الفشل غير مرئي بالنسبة لنا، فإننا لا نستطيع رؤية الفرق بين النجاح والفشل.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}