نبض أرقام
06:13 م
توقيت مكة المكرمة

2024/11/24
2024/11/23

"الأموال الساخنة" والتلاعب بمصير الاقتصاد .. كم مرة شاهدنا هذا الفيلم؟

2018/05/11 أرقام - خاص

قوة مزعزعة للاستقرار، تدخل إلى الاقتصاد فتخلق ازدهارا كاذبا، وفي طريق خروجها تترك خلفها فوضى لا توصف. لا يمكننا رؤيتها أو لمسها، وبالتأكيد لا يمكننا القضاء عليها تمامًا، ولكن في أفضل الأحوال نستطيع أن نبعدها عنا (مؤقتًا)، وإذا كنا أذكياء ومحظوظين بما يكفي فيمكننا استغلالها في تحقيق مصالحنا الخاصة.
 

 

ما نتحدث عنه هنا، هو ما يطلق عليه البعض اسم "رأس المال الخامل" أو "الأموال الساخنة". تلك الأموال التي تسعى لتحقيق أعلى العوائد دون أي احترام للشروط، ودون الالتزام بأي شيء أو حتى الالتفات إلى المخاطر المترتبة، ولا تساهم في خلق أي نشاط اقتصادي حقيقي.
 

ربما أفضل تشبيه لـ"الأموال الساخنة" هو أنها مثل الصاحب المنافق، الذي يبذل كل شيء من أجل الحصول على ثقتك ويحرص على مرافقتك طالما تمضي الأمور على نحو جيد، ولكن حينما تلوح الشدة في الأفق وتحتاج إليه تلتفت وراءك فلا تجده. والأسوأ من ذلك أنه قد يستغل الأزمة.
 

انتهازية "الأموال الساخنة"
 

- في يناير/كانون الثاني من عام 1998 شن رئيس الوزراء الماليزي السابق "مهاتير محمد" هجومًا على مستثمري "الأموال الساخنة" الذين ساهم سلوكهم الاستثماري في تعميق الأزمة المالية الآسيوية، حيث صرح قائلًا "لقد أمضت هذه البلدان 40 عامًا تحاول أن تبني اقتصاداتها، ثم يأتي مستثمرون مثل "جورج سوروس" ومعهم الكثير من الأموال للمضاربة وتدمير كل شيء".

 

- الأموال الساخنة، هي استثمارات انتهازية قصيرة الأجل (عادة لا تزيد مدتها على عام واحد) تستهدف بشكل رئيسي اقتصادات البلدان النامية، وبالأخص تلك التي لديها أسعار فائدة أعلى من المتوسط، وتخرج من بلد لتدخل آخر بغرض تحقيق أكبر عائد ممكن في أقصر فترة زمنية ممكنة.

 

- في الحقيقة، إن مشكلة هذا النوع من الاستثمار هو أنه شديد التقلب، وهذا التقلب يؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار في البلدان المستقبلة لهذه الأموال، حيث إن التدفقات الداخلة والخارجة بكميات كبيرة من الأموال الساخنة تساهم في تقلب أسعار الصرف، وازدهار أو انكماش أسواق الأوراق المالية المحلية.



- عادة ما تدار الأموال الساخنة (المملوكة بشكل رئيسي لصناديق التحوط والبنوك الاستثمارية) من قبل المضاربين الماليين، ومن الممكن أن تدخل هذه الأموال في المساء وتخرج قبل حلول الصباح، وهذا هو سر قدرتها على هز وإضعاف الأسواق المالية.

 

- رغم خطورتها، تسعى بعض البنوك في البلدان النامية إلى جذب "الأموال الساخنة" من خلال طرح شهادات إيداع قصيرة الأجل بأسعار فائدة أعلى من المتوسط للمستثمرين الأجانب، ولكن بمجرد أن تقوم هذه البنوك بخفض أسعار الفائدة، أو في حال قدم بلد آخر أسعار فائدة أعلى، ينسحب هؤلاء في لمح البصر مع أموالهم ناحية أسعار الفائدة الأعلى.

 

- وفي الواقع، إن الأموال الساخنة يتم ضخها بشكل رئيسي في ديون الأسواق الناشئة، والانسحاب السريع لهذه الأموال من القطاعات المصرفية بالبلدان النامية يتسبب في كثير من الأحيان في حدوث أزمة، كما يؤثر سلبًا على ميزان المدفوعات للدولة.
 

لماذا التضحية بالاقتصاد الحقيقي؟
 

- قصة "الأموال الساخنة" مع الأسواق الناشئة أصبحت أشبه بالفيلم الذي شاهدناه عشرات المرات، لدرجة جعلت الكثيرين يملون من تكراره. هذا ما حدث في آيسلندا وإسبانيا واليونان ومن قبلهم تايلاند وماليزيا وكوريا الجنوبية وهونج كونج. فباستثناء بعض التفاصيل المختلفة، عادة ما يكون السيناريو كالتالي:

 

- "في البداية يتم صب هذه الأموال صبًا في تلك الأسواق عندما تعرض أسعار فائدة أعلى من المتوسط على ديونها قصيرة الأجل، ولكن بمجرد أن تنخفض الفائدة لتعود إلى المستويات الطبيعية تخرج هذه الأموال أسرع مما دخلت، وما يحدث بعد ذلك معروف: تنهار العملة الوطنية ويتأزم سوق الأسهم المحلي، ويضحي البنك المركزي بالاقتصاد الحقيقي من أجل إنقاذ سعر الصرف".

 

- الأموال الساخنة من المفترض أنها مثل أي أموال أخرى، ولكن سبب خطورتها يكمن في طبيعة القطاعات التي تستهدفها هذه الأموال. فلو أنها تدخل إلى الاقتصاد من أجل تطوير أعمال جديدة وخلق فرص عمل ونمو مستدام، لكانت موضع ترحيب من قبل الجميع.

 

- لكن أصحاب هذه الأموال لا يفضلون هذه الطريقة التقليدية في الاستثمار، ويقومون بدلًا من ذلك بالاستثمار في أدوات الدين الحكومي قصير الأجل لتمويل الإنفاق العام أو الاستهلاكي، أو الدخول في قطاع العقارات والإنشاءات (السكن أو البنية التحتية) مسببين في كثير من الأحيان فقاعات مالية ضارة.



- للأسف الكثير من الحكومات تفشل في التفرقة بين تدفقات الأموال الساخنة وبين الاستثمار الأجنبي المباشر الحقيقي. على سبيل المثال، من الخطأ أن تعلق الحكومة التركية مثلًا استراتيجيتها الاقتصادية على ارتفاع أسعار المنازل على خلفية الطلب المتزايد على العقارات في الكثير من المدن التركية.

 

- المشكلة هي أن هذا الطلب المتزايد تقوده بشكل رئيسي مشتريات المستثمرين الأجانب الذين لا يعتزم معظمهم العيش في تركيا. وهؤلاء ببساطة يتعاملون مع العقارات السكنية باعتبارها استثمارا ذا عائد مرتفع، وفي نفس الوقت ليس لديهم أي التزام تجاه تركيا، وسيبيعون تلك العقارات بمجرد أن تظهر أمامهم فرص أفضل، وإذا لم تكن هناك ضوابط تنظم خروجهم، فقد ينهار سوق الإسكان التركي.
 

كيف ورطت تايلاند نفسها في هذا المستنقع؟
 

- بدأ الانهيار المالي الآسيوي في الخامس من فبراير/شباط 1997 حين أعلنت شركة العقارات التايلاندية "سومبراسونج لاند" فشلها في سداد 3.1 مليون دولار من الفوائد المستحقة على سندات "يوروبوند" بقيمة 80 مليار دولار.

 

- كانت "سومبراسونج لاند" هي أولى ضحايا أنشطة المضاربة الأجنبية في سوق العقارات في بانكوك. على إثر هذا الخبر انخفض سوق الأسهم التايلاندي بنسبة 2.7%، ولكن هذه كانت البداية فقط. الكثير من الشركات العاملة في نفس المجال كانت في طريقها إلى الإفلاس.

 

- ما تسبب في تعقيد الوضع هو أن هذه الشركات لم تكن تقترض من الخارج بنفسها، بل عبر أكبر المؤسسات المالية للبلاد والتي كانت تعمل على إصدار السندات قصيرة الأجل، وتسليم العائدات إلى تلك الشركات، والتي كانت تضخ هذه الأموال في أنشطة التطوير العقاري المزدهرة في ذلك الوقت.



- انهارت أكبر شركة تمويل في تايلاند "فاينانس وان" بعد تعثر الكثير من شركات العقارات، وارتفعت قيمة القروض العقارية المتعثرة إلى أكثر من 30 مليار دولار، وواجه قرابة ثلثي شركات التمويل في تايلاند (وعددها 91) وضعا ماليا خطيرا، وبدأ هجوم المضاربين على العملة التايلاندية.

 

- طوال السنوات الـ13 السابقة لهذه الفترة كان البات التايلاندي مربوطًا بالدولار الأمريكي عند سعر صرف يساوي دولارا واحدا مقابل كل 25 بات. ولكن في هذه الفترة أصبح حفاظ تايلاند على ثبات سعر الصرف مهمة شبه مستحيلة.

 

- تجار العملة وأصحاب الأموال الساخنة كانوا يراقبون الوضع عن كثب، ويدركون طبيعة وأبعاد الورطة المالية التي تعاني منها تايلاند (عجز متزايد في الحساب الجاري بالإضافة إلى عبء الديون المقومة بالدولار) ولذلك قاموا بالرهان ضد البات من خلال بيعه على المكشوف.
 

فقدان السيطرة على دفة الاقتصاد
 

- في محاولة يائسة لحماية البات، أنفق المركزي التايلاندي أكثر من 23 مليار دولار على شراء العملة المحلية، ولكن دون جدوى لأن المضاربين راهنوا بالمليارات على اضطرار البنك في النهاية إلى التعويم، وهو ما حدث فعلًا.

 

- ما زاد الوضع سوءًا، هو أن الحكومة التايلاندية في سعيها لجعل البات أكثر جاذبية، قامت برفع سعر الفائدة الرئيسي من 10% إلى 12.5%، ولكن هذه الخطوة تسببت في نفس الوقت في ارتفاع تكاليف الاقتراض على الشركات، وتفاقم أزمة الديون.

 

- القشة التي قصمت ظهر البعير، والمعلومة التي لم يكن يعرفها في هذه المرحلة سوى الحكومة التايلاندية هي أن البنك المركزي كان قد دخل بمعظم احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي في عقود آجلة، في حين أن تايلاند لم تعد تمتلك سوى 1.14 مليار دولار تدافع بها عن البات. أصبح من الواضح أن تعويم البات أمر حتمي.

 

- في الثاني من يوليو/تموز 1997، وبعد سلسلة من الهجمات المتكررة من قبل البنوك الاستثمارية وصناديق التحوط الأجنبية، قامت تايلاند بتعويم البات، وشهدت قيمته انخفاضا فوريا بنسبة 18% مقابل الدولار.

- وبحلول يناير/كانون الثاني 1998، انخفض سعر صرف العملة التايلاندية إلى 55 بات مقابل كل دولار.

 



- أدى الانخفاض الحاد الذي شهدته قيمة البات أمام الدولار إلى مضاعفة حجم الأموال المطلوبة لخدمة الديون المقومة بالدولار التي تلتزم بها المؤسسات المالية وقطاع الأعمال التايلاندي. وهكذا، بدأت هذه الشركات تفلس واحدة تلو الأخرى.

 

- في الثامن والعشرين من يوليو/تموز 1997، اتخذت الحكومة التايلاندية الخطوة المنطقية التالية، وهي طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي، والذي وافق على برنامج إنقاذ قيمته 17.2 مليار دولار، ولكن وفق شروط قاسية.

 

- تضمنت شروط صندوق النقد الدولي خفض الإنفاق العام بنحو 100 مليار بات، وتقليص عجز الحساب الجاري إلى نسبة 3% في عام 1998، وتخفيض حجم الإعانات والاستثمارات الحكومية بالقطاع العام، بالإضافة إلى زيادة ضريبة القيمة المضافة من 7% إلى 10%.

لآن هل باتت الأرجنتين التي شهدت مؤخرا مظاهرات رافضة لتفاوضها مع صندوق النقد بعد اضطرارها لإستخدام الاحتياطي النقدي في الدفاع عن عملتها تمثل نقطة بداية "الهروب الكبير" أو هجرة عكسية للأموال من الأسواق الناشئة بإتجاه أسواق أكثر استقرارا مع رفع الفائدة في أمريكا، وهل تساهم التطورات السياسية في دخول تركيا التي اضطرت لرفع الفائدة لدعم الليرة القائمة أيضا، ومن ثم يتوالي تساقط أحجار الدومينو؟

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.