"معدل التضخم تراجع بنسبة 1% خلال الشهر الماضي".. كثيرًا ما يستقبل الناس مثل ذلك الإعلان من حكوماتهم بالكثير من الاستبشار والسعادة.
غير أنه بعد قليل يفاجأون بأن أسعار السلع التي يشترونها لم تنخفض، بل وربما واصلت الارتفاع، بما يجعلهم إما يتشككون فيما أعلنته الحكومة أو يتساءلون عن معنى انخفاض التضخم إذا لم تتراجع الأسعار.
يحتاج فهم الأمر أولا لمعرفة معنى التضخم، فإذا كان مستوى التضخم في شهر ما 4% في بلدك فإن ذلك يعني أنه إذا كانت كافة السلع التي تباع في البلد بمليار ريال في الشهر الماضي فإنها أصبحت بـ1.04 مليار ريال هذا الشهر.
وبالتالي فإن انخفاض التضخم إلى 3% مثلًا في الشهر الذي يليه فهذا لن يعني أن السلع ستنخفض أسعارها، ولكن أن معدل ارتفاع الأسعار سيقل عن مثيله في الشهر الذي سبقه، لكنها (الأسعار) ستواصل الارتفاع.
حجر في مياه راكدة!!
معدل التضخم يقيس المستوى العام للأسعار وليس سلعة بعينها، لذا فقد ترتفع أسعار البنزين بنسبة كبيرة ولتكن 30% بينما يكون معدل التضخم أقل كثيرًا وليكن 5%.
لذا فقد يكون المستوى العام للأسعار ارتفع بنسبة طفيفة غير أن سلعة بعينها مؤثرة ترتفع بنسبة كبيرة بما يؤثر على نظرة المستهلكين لحقيقة تحسن معدلات التضخم.
وهناك نظرية في الاقتصاد تعرف بتأثير الدوائر، ويتم تشبيه الأمر بإلقاء حجر في مياه راكدة لتليه موجات متعاقبة تتسع تدريجيًا، ويكون المركز نقطة إلقاء الحجر.
الأمر ذاته ينطبق على التضخم فقد يلقى حجر بانخفاض التضخم، غير أن آثاره لا تظهر على الأسواق بشكل مباشر وربما لأشهر.
ويتضح هذا الأمر بصورة أكبر إذا كان الانخفاض في التضخم راجعا لتراجع أسعار المواد الأولية والمواد الوسيطة المستخدمة في الانتاج.
فالمنتجون للسلع النهائية لا يحسبون تكلفة السلع وفقًا لأسعارها الجديدة (المنخفضة) حتى ينتهوا من استهلاك ما لديهم من مخزون اشتروه بأسعار مرتفعة نسبيًا، بما يؤخر وصول تراجع التضخم للمستهلكين.
تدخل حكومي للحفاظ على التضخم!!
ويجب ملاحظة أن غالبية الحكومات لا ترغب في معدل تضخم سالب، بل وتفضل معظم السياسات النقدية والمالية في البلدان المتقدمة في الحفاظ على معدل تضخم في حدود 2% سنويًا تحديدًا.
وهنا يظهر دور البنوك المركزية للدول في التحكم في المعروض النقدي بحيث يحقق نسبة معينة في التضخم، هذا بالطبع إذا كان بنكًا مركزيًا قويًا وإن لم يكن الأمر متروكا كلية لآليات العرض والطلب.
كما تستخدم الحكومات أداة النفقات الحكومية للتحكم في نسبة التضخم أيضًا، فتزيد منها إذا رغبت في زيادة النمو ولو على حساب تضخم أعلى وتقلل منها إذا رغبت في كبح جماح التضخم.
وتتدخل الحكومات في عمل آلية العرض والطلب من أجل الحفاظ على معدل تضخم موجب، لمواجهة معضلة نفسية تكلم عنها خبراء الاقتصاد متعلقة بسلوك الكثير من المستهلكين.
فغالبية المستهلكين يحجمون عن شراء السلع التي تنخفض أسعارها في كثير من الأحيان أملًا في المزيد من التوفير، بما يقيد النمو الاقتصادي، ويصيب بعض الأعمال بالكساد.
لذا تجد الحكومات نفسها مخيرة بين نسبة تضخم "مقبولة" يصحبها نمو اقتصادي ورواج للأعمال، وبين نسبة تضخم "سلبية" يصحبها كساد وانكماش للاقتصاد، ولا شك أن الاختيار دائما ما يصب في مصلحة الاختيار الأول.
الاقتصاد الموازي والبورصة
في بعض الدول يتسع حجم الاقتصاد الموازي (غير الرسمي) بشكل كبير، وقد يكون الاقتصاد الذي تستطيعه الدولة في بعض الأحيان بلا معدل تضخم مرتفع، بينما يكون معدل التضخم في الاقتصاد الموازي مرتفعا بما يجعل المستهلك يعاني ارتفاعًا للأسعار.
وليس بالضرورة أن يكون الاقتصاد الموازي في تداول سلع غير مشروعة، ولكنه قد يظهر في السلع التي تدعمها الدولة، وغالبًا ما تكون سلعًا أساسية بطبيعة الحال، بما يجعل التضخم ماسًا بالاحتياجات الأساسية للمستهلك.
ولهذا ترغب الدول دائمًا في السيطرة على الأسواق الموازية لأنها لا تسمح لها باستخدام أدواتها المالية والنقدية كما تريد للتحكم في نسبة التضخم (إذا كانت لديها القدرة على ذلك).
وللبورصة تأثير كبير على التضخم خاصة في الدول النامية، فالبورصة في تلك الدول تشكل عاملًا مهمًا في تحديد مدى السيولة المالية المتوافرة في الأسواق، بسبب الصغر النسبي لحجم الاقتصاد القومي.
لذا فإن عمليات البيع أو الشراء المكثفة في البورصات يكون لها تأثير مباشر على أسواق السلع والخدمات دون أن يتم رصدها آنيًا من قبل الحكومات.
وفي حالات البيع (وخاصة للأجانب) يعني ذلك ظهور سيولة مفاجئة في الأسواق وبالتالي ارتفاع معدل التضخم الفعلي بعيدًا عن ذلك الرسمي، لا سيما أن تلك الزيادة في السيولة لا يصاحبها ارتفاع في معدلات إنتاج السلع والخدمات.
إذن فانخفاض معدلات التضخم لا يعني بالضرورة أن تتراجع أسعار السلع التي تشتريها، ليبقى السؤال دائمًا حول معدلات النمو وتناسبها مع معدلات التضخم "الصحية" من عدمه.
أما انخفاض الأسعار الذي يهدد الاقتصاد بالانكماش، فلا تتمناه الحكومات ولا المستهلكون، ولعل هذا ما يبرر كيف ظلت الحكومة السويسرية في أوائل الألفية الحالية تحاول رفع التضخم إلى 1-2% بعد أن ظل 0.0% لأعوام وذلك خوفًا من الركود.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}