منذ عقود، وتدور معارك حزبية ونقاشات حادة في الكثير من البلدان حول ما إذا كان يحق للمواطنين الحصول على خدمة يعتبرها الناس في ألمانيا وفي العديد من الدول الصناعية أمرًا مفروغًا منه، وهي: التأمين الصحي الشامل.
وفي الحقيقة، إن هذا النقاش يمس في جوهره القيم الأساسية للكثير من المجتمعات، والتي تكافح الجماهير بها من أجل التوفيق بين قناعاتها بشأن الحرية الشخصية والمسؤولية الفردية والسوق الحرة، وبين ضرورة إنسانية مقتضاها أنه من غير المقبول ألا يحصل أي مريض على العلاج فقط لأنه غير قادر على تحمل تكاليفه.
في ألمانيا، التأمين الصحي قصة مفروغ منها. ببساطة، يعتقد الألمان أن التضامن هو المبدأ الأساسي الذي يجب أنه يقوم عليه نظامهم الصحي، وهو النظام الذي يعتبر بمثابة حجر الزاوية في الديمقراطية الاجتماعية التي تقدر المساواة بقدر الحرية الشخصية.
لكن ما الذي تعنيه كلمة التضامن في هذا السياق؟ أكبر شركة للتأمين الصحي في ألمانيا " AOK" تعرف التضامن كالتالي: "الأثرياء يدفعون عن المواطنين الأقل حظًا، والصغار يدفعون عن الكبار، والعزاب عن أصحاب العائلات، وفي كثير من الأحيان، الرجال عن النساء".
وفي الواقع، إن عمر النظام الصحي الألماني من عمر ألمانيا الحديثة تقريبًا.
"بسمارك" واللعب مع الاشتراكيين
- في ذروة الثورة الصناعية، كان لا يتم منح العمال الذين يمرضون أي أجور، لذلك قام العمال بتشكيل ما سموه "المجتمعات الصديقة" والتي كانت عبارة عن تعاونيات يدفعون فيها أقساطًا شهرية، من أجل تكوين موارد مالية تمكنهم من مواصلة دفع الأجور لزملائهم المرضى. هذه التعاونيات تسمى اليوم في ألمانيا باسم "صناديق المرض".
- خلال هذه الفترة، كان "كارل ماركس" و"فريدريك إنجلز" يثيران ويقلبان الجماهير ببياناتهما السياسية، بما في ذلك "البيان الشيوعي"، وهو ما وضع المستشار الحديدي لألمانيا "أوتو فون بسمارك" في مأزق، خصوصًا بعدما لم يتمكن من دحر الشيوعية من الرايخ، بتمريره قانون مكافحة الاشتراكية في عام 1878، والذي حظر بموجبه اجتماعات الديمقراطيين الاجتماعيين وصحفهم.
- في هذه اللحظة قرر "بسمارك" اللعب مع الاشتراكيين على طريقتهم، حيث رأى أن الطريقة الوحيدة لوقف زحف الشيوعية هي إعطاء الطبقة العاملة وأصحاب الدخل المنخفض الأشياء التي لطالما تطلعوا إليها، وهي الرعاية الصحية والتعليم وشبكة الأمان الاجتماعي بشكل عام.
- يقول المؤرخ الألماني "جوناثان شتاينبرج" مؤلف كتاب "بسمارك: حياة" عن هذه الخطوة "كانت عملية حسابية بحتة، لا علاقة لها بالرفاهية الاجتماعية. أراد بسمارك فقط أن يُرشي الجماهير التي تصطف خلف الديمقراطيين الاجتماعيين لكي يتخلو عن حزبهم".
- في عام 1883، أُصدر أمر التأمين الإمبراطوري، الذي يرمز إليه اختصارًا بـ"R.V.O" والذي ألزم العمال الذين يحصلون على دخل لا يقل عن حد معين بدفع أقساط إلى "صناديق المرض". وحتى اليوم لا يزال "R.V.O" يحكم نظام الرعاية الصحية الألماني، وذلك على الرغم من آلاف التعديلات التي أدخلت عليه منذ ذلك الحين.
- اعتقد "بسمارك" ومعاصروه أن الطريقة الوحيدة لحماية الأفراد من المشاكل الصحية الكارثية، هي تشارك المجتمع بأكمله في تحمل هذا الخطر، وبهذا النظام، وضع حجر الأساس لدولة الرفاهية الأوروبية الحديثة.
- خلال الحرب العالمية الثانية، قام "هتلر" بتصدير هذا النظام إلى هولندا وبلجيكا وفرنسا، والذي يطلق عليه حاليًا اسم "نموذج بسمارك" لتمييزه عن غيره من أنظمة التأمين الصحي الاجتماعي، مثل النظام الذي تديره هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية.
- شاع استخدام "نموذج بسمارك" بعد الحرب، وعلى الرغم من أن "هتلر" هو من قام بتصديره للخارج، لا تزال تعتمد على هذا النظام بلدان مثل اليابان وسويسرا وهولندا وبلجيكا وفرنسا وأجزاء من أمريكا اللاتينية.
- كان هذا هو أول نظام رسمي للتأمين الصحي في العالم، وكذلك أول نظام ترعاه الحكومة. وحتى اليوم يعتبره الكثير من الخبراء أفضل نموذج للتأمين الصحي في العالم، لأنه يمزج نظام تقديم الرعاية الصحية الخاص مع التغطية الشاملة والتضامن الاجتماعي.
من حق الجميع
- الطريقة التي يتم بها تمويل هذا النموذج غاية في البساطة، ومنصفة وغير مكلفة. وفي الحقيقة، لا يوجد تقريبًا مواطن غير مؤمن عليه صحيًا في ألمانيا، ولا توجد أسرة لا يمكنها تحمل فواتير الرعاية الصحية، ببساطة التكلفة في متناول الجميع.
- أقل من 0.1% فقط من السكان (اعتبارًا من عام 2015) هم من يفتقرون إلى التأمين الصحي. ووفقًا لمسح أجري في أبريل/نيسان 2017، أبدى 84% إعجابهم بنظامهم الصحي. ويغطي نظام التأمين الصحي الحكومي أكثر من 90% من المواطنين، بينما يغطي التأمين الخاص الباقي.
- حتى عام 1992 كان يتم تقسيم صناديق المرض بحسب الحرفة أو الشركة أو المنطقة، فالنجار لم يكن له خيار سوى الانتماء إلى صندوق الرعاية الصحية الخاص بالنجارين، ولكن بعد عام 1992، أصبح الجميع قادرين على الاختيار بين حوالي 200 صندوق مرض.
- حتى المهاجرين غير الشرعيين واللاجئين، والذين أصبحوا مؤخرًا موضوعا للنقاش في ألمانيا، يشملهم نظام الرعاية الصحية. ببساطة، مجرد وجودك على الأراضي الألمانية يُضمن لك الحق في جميع الخدمات الاجتماعية.
- رسميًا، يدفع أرباب العمل نصف تكلفة الرعاية الصحية، بينما يدفع العمال النصف الآخر. وإذا كنت عاطلًا عن العمل تتحمل الحكومة أقساط التأمين الخاصة بك، وإذا كنت فقيرًا يدفعها المجتمع، أما إذا كنت متقاعدًا، فيدفع هذه الأقساط صندوق التقاعد. وبالنسبة للأطفال، يتم إدراجهم مع والديهم في صندوق المرض التابعين له، ولكن الحكومة الاتحادية هي من تدفع الأقساط عنهم.
رغم التحديات.. الألمان أفضل حظًا من غيرهم
- في ألمانيا، بإمكان المرضى الاختيار بين الأدوية التي تناسبهم، دون الحاجة إلى دفع الفرق إذا اختاروا الأدوية ذات التكلفة الأعلى، وهو ما يساهم من ناحية أخرى في خلق منافسة في صناعة الأدوية تؤدي في نهاية المطاف إلى حصول المرضى على الأدوية بأسعار معقولة.
- تتم مفاوضات بين الدولة والمؤسسات الطبية للتأكد من تطابق أسعار الخدمات الصحية والأدوية في جميع أنحاء البلاد، وبوسع أي مواطن اختيار الطبيب أو المختص أو المستشفى التي يرغب في زيارتها. ولا يوجد أي تضارب بين الحرية الشخصية والتضامن.
- على الرغم من أن الألمان راضون عنه بشكل كبير، إلا أن نموذج بسمارك يواجه تحديات في القرن الحادي والعشرين. فكما هو الحال بالكثير من الاقتصادات الغنية الأخرى، تستمر تكاليف الرعاية الصحية في الارتفاع مع ارتفاع نسبة كبار السن.
- في عام 2015، أنفقت ألمانيا على خدمات الرعاية الصحية حوالي 4.213 ألف يورو عن كل شخص، وهو ما يعادل 11% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. ومن أجل تغطية التكاليف المرتفعة، دعمت الحكومة صناديق المرض بحوالي 14.5 مليار يورو من حصيلتها الضريبية.
- أخيرًا، رغم التحديات التي يواجهها نموذج بسمارك للتأمين الصحي، إلا أن الألمان في نهاية المطاف أفضل حالاً من غيرهم في الكثير من البلدان التي لا تزال تدور فيها نقاشات حول التأمين الصحي كفلسفة عقيمة لا تثمر شجرتها!
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}