قبل 30 يوماً من بداية الألفية الثالثة، وتحديداً في الثلاثين من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1999، أُعلن اندماج شركتي النفط الأمريكيتين "إكسون" و"موبيل" ليظهر للوجود أكبر شركة نفط مدرجة في العالم، والأعلى من حيث الإيرادات آنذاك.
فقد كان مجموع إيرادات الشركتين خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 1998 حوالي 119 مليار دولار، وهو ما يتجاوز 115 مليار دولار حققتها أكبر شركة في العالم في ذلك الوقت "جنرال موتورز".
صنفت الصفقة التي قدرت قيمتها بأكثر من 75 مليار دولار من قبل المحللين كأكبر اندماج صناعي في التاريخ، وتجاوزت حينها صفقة اندماج "بريتش بتروليوم" مع "أموكو" الأمريكية في صفقة قدرت بنحو 48.2 مليار دولار.
وتمخض هذا الاندماج عن ما يعرف اليوم بشركة "إكسون موبيل"، وهي الكيان التجاري الذي لو كان دولة لصنف في المرتبة الـ21 ضمن أكبر الاقتصادات في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي.
ولكن يوجد للشركة الأمريكية ذائعة الصيت تاريخ غير مروي، وحكايات غير معروفة بالنسبة لكثيرين تقف وراء نجاحها وحفاظها على مكانتها بين الكبار منذ فترة طويلة، يرويها الكاتب الأمريكي "ستيف كول" في كتابه "إمبراطورية خاصة- إكسون موبيل والقوة الأمريكية".
السياسة الخارجية لدولة "إكسون موبيل"
- بالرجوع عدة قرون إلى الوراء، أثناء فترة الاستعمار الأوروبي لأكثر من منطقة في العالم، نجد أنه كانت هناك العديد من الكيانات التجارية التي تتمتع بنفوذ أكبر من العديد من الحكومات الغربية. فكان بمقدور كيانات مثل شركة الهند الشرقية ومنافستها شركة الهند الهولندية الشرقية إرسال سفن حربية وجيوش خاصة بهما للاستيلاء على ثروات ومصادرة أراض.
- بعد قرون من اليوم، من المرجح أن يجد المؤرخون أثناء دراستهم لعصرنا الحالي شركات نفط متعددة الجنسيات تلعب دوراً مشابهاً، غير أن الطريقة التي يعيدون بها تشكيل العالم اليوم ليس عن طريق الاستعمار، وإنما بالبحث عن النفط والغاز في أماكن أكثر خطورة: تحت المحيطات وفي رمال القطران الكندية وفي المياه القطبية الهشة بيئياً الذي أصبح سهلا الوصول إليه مع تقلص الغطاء الجليدي.
- الصورة التي يرسمها "ستيف كول" لـ"إكسون موبيل" تزخر بأرقام كثيرة حول حجم تلك الإمبراطوية. ففي النصف الأول من عام 2011 بلغت أرباح الشركة 21.3 مليار دولار، بينما حصل رئيسها التنفيذي السابق "لي ريمون" عند تقاعده في عام 2005 بعد إدارتها لمدة 12 عاماً على حزمة مكافآت تبلغ 398 مليون دولار.
- لذلك ليس من المستغرب امتلاك "إكسون موبيل" واحدة من أهم وأكثر جماعات الضغط (لوبي) تأثيراً في واشنطن، والتي تضم أعداداً كبيرة من أعضاء مجلس الشيوخ السابقين والمساعدين التشريعيين وغيرهم من المسؤولين الرسميين البارزين. وبمرونة تحسد عليها تقوم الشركة الأمريكية بتغيير تركيبة هذا اللوبي على أساس من يسيطر على الكونجرس: ديمقراطيون أو جمهوريون.
- لكن هذا الكتاب، لا يركز على مدى تأثير "إكسون موبيل" على الحكومة الأمريكية، بقدر ما يقوم برسم صورة واقعية إلى حد كبيرة لشركة عملاقة تعمل في 200 دولة وإقليم حول العالم، ولديها (سياستها الخارجية) الخاصة بها.
- في عام 1999، اشتكت سفارة الولايات المتحدة في تشاد من تجاهل الشركة للدبلوماسيين الأمريكيين هناك. وللوهلة الأولى تبدو هذه الحادثة غريبة، لكن بعد النظر إلى المعطيات في ذلك الوقت نجد الأمر منطقيا إلى حد كبير. ببساطة كانت استثمارات "إكسون موبيل" في مشروع النفط الكاميروني التشادي 4.2 مليار دولار، في حين لم تتجاوز المساعدات السنوية من الولايات المتحد لتشاد ثلاثة ملايين دولار.
- السياسة الخارجية لـ"إكسون موبيل" التي يديرها قسم سياسي تابع للشركة يضم أعضاء سابقين بمجلس الأمن القومي الأمريكي ووزارة الخارجية تتفق أحياناً مع سياسة الجالس بالمكتب البيضاوي في البيت الأبيض وفي أحيان أخرى قد تختلف معها.
- على سبيل المثال، لم تكن "إكسون موبيل" متحمسة لغزو العراق، فعلى الرغم من امتلاكه لاحتياطيات ضخمة من النفط الخام، إلا أنها كانت تدرك أن الجزء الأكبر من تلك الكميات يصعب استخراجه، وسيتطلب استثمارات ضخمة في تكنولوجيا الاستخراج.
- تمتلك "إكسون موبيل" جيوشها الخاصة، ولكنها لم تؤسسها بالضرورة، وإنما تقوم باستئجارها من الآخرين. ففي تشاد يقوم حوالي 2500 رجل تابعين للشركة بالاستعانة بمركبات رياضية متعددة الأغراض "إس يو في" بدوريات أمنية، مكونين جهاز عمليات استخباراتيا يفوق الوحدة المحلية لجهاز "سي آي إيه" حجماً وتنظيماً.
- في منطقة دلتا النيجر المضطربة، منحت "إكسون موبيل" القوات البحرية النيجيرية قوارب عسكرية ونشرت كذلك سفنها الخاصة في البحر لتعقب القراصنة، ووصل الأمر إلى أبعد من ذلك بتحملها لتكاليف تجنيد أعداد إضافية من الجيش والشرطة لنشر الأمن حول منشآتها النفطية.
- في إقليم آتشيه، في إندونيسيا، دفعت رواتب قوات مكافحة التمرد الإندونيسية التي قامت بتعذيب وقتل السجناء في منشآت تابعة للشركة، وظلت تلك المدفوعات تتدفق حتى بعد أن قطعت الحكومة الأمريكية المساعدات المقدمة إلى الجيش الإندونيسي بسبب هذه الانتهاكات.
خداع "تشافيز"
- في عام 1997 وقعت عقداً مع شركة بترول فنزويلا المعروفة باسم "بتروليوس دي فنزويلا" (PDVSA) لاستخراج ومعالجة النفط الثقيل في جزء من حوض نهر أورينوكو.
- حاولت الشركتان إصدار سندات بقيمة 600 مليون دولار لتمويل المشروع، ولكن في ظل حالة عدم الاستقرار التي يتسم بها الوضع السياسي في فنزويلا، لم يكن المستثمرون على استعداد لشراء تلك السندات بأسعار معقولة ما لم تكن هناك ضمانات بشأن كيفية السداد.
- بناءً على ذلك قامت شركات المحاماة والبنوك الاستثمارية المنظمة لعملية بيع هذه السندات بتدشين اتفاق مشترك لحماية مشتري تلك السندات سمي بالشلال النقدي، وهو عبارة عن شبكة من الحسابات المصرفية التي تتحرك خلالها أموال النفط بطريقة محددة.
- ببساطة، نصت شروط ذلك الاتفاق، على أن يتم تخصيص عائدات مبيعات النفط المستخرج من المشروع لتغطية تكاليف عمليات الشركتين أولاً، وبعد ذلك تأتي مدفوعات الفوائد المستحقة لحاملي السندات، على أن يتم تحويل الباقي لحسابات مصرفية في بنك نيويورك بمانهاتن والذي سيضمن أن جميع الالتزامات القانونية المستحقة على الشركتين سيتم الوفاء بها.
- استمر الاتفاق في العمل بسلاسة لمدة 10 سنوات إلى أن حاول الرئيس الفنزويلي "هوجو تشافيز" في ربيع عام 2007 إعادة فرض سيطرته على نفط فنزويلا وقام بتأميم المشروع بينما لا تزال توجد سندات مستحقة عليه بقيمة 536 مليون دولار.
- في السابع والعشرين من أبريل/نيسان أعلن حاملو السندات أن فنزويلا و"إكسون موبيل" تعثرتا بشكل قانوني في التزاماتهما كمصدري سندات. وفي ظل نظام الشلال النقدي كان لدى حاملي السندات الحق في الاستيلاء على الضمانات إذا تم تأكيد تخلف الشركتين قانونياً عن السداد.
- وافقت "إكسون موبيل" على الانسحاب من المشروع، ليصبح تحت سيطرة فنزويلية كاملة، ولكنها اتصلت في نفس الوقت بنظام "تشافيز" لحثه على التعاون معها في مشكلة السندات التي كانت مسؤولة عن 50% منها.
- في الأول من يونيو/حزيران عام 2007 أقنع بنك الاستثمار "لازارد" الحكومة الفنزويلية بأن أفضل حل لمشكلة السندات هو قيامها بإعادة شرائها جميعاً ومن ثم إعادة الاقتراض ثانية من مصادر أخرى. وافق مساعدو "تشافيز" على هذا الاقتراح.
- خلال تلك الفترة استمرت إيرادات مبيعات النفط المستخرج من المشروع في التدفق إلى حسابات الشركتين الأمريكية والفنزويلية لدى بنك نيويورك، حيث بلغ رصيد "إكسون موبيل" 242 مليون دولار، بينما اقترب رصيد فنزويلا من 300 مليون دولار. ولكن في ظل النزاع مع الدائنين لم يكن بمقدور أي منهما الاقتراب من تلك الأموال.
- بينما كانت فنزويلا تفكر في كيفية الاستفادة من الـ300 مليون دولار بعد الإفراج عنها مع الانتهاء من إجراءات إعادة شراء السندات، قامت "إكسون موبيل" سراً بتعيين محام من شركة "ستيبتو آند جونسون" لاتخاذ الخطوات اللازمة لتجميد أموال فنزويلا في بنك نيويورك.
- في 27 ديسمبر/كانون الأول عام 2007، أي قبل يوم واحد من قيام فنزويلا بإعادة شراء السندات وإخراج نفسها و"إكسون موبيل" من المأزق مع حاملي السندات، طلب محامي الشركة الأمريكية في محكمة فيدرالية بمانهاتن عقد جلسة استماع أمام قاضي الطوارئ، وطالبه بتجميد أموال فنزويلا كضمان لقرارات تحكيم مستقبلية في قضايا تعتزم "إكسون موبيل" رفعها ضد نظام "تشافيز".
- في اليوم التالي، قامت فنزويلا بإعادة شراء السندات، وتمكنت "إكسون موبيل" من الحصول الـ242 مليون دولار القابعة في حساباتها ببنك نيويورك بينما لم تحصل فنزويلا سوى على قرار موقع من القاضي يفيد بتجميد ملايينها التي لولاها لم تكن لتقوم بإعادة شراء تلك السندات في المقام الأول.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}