يدخل المستثمرون أسواق المال لكي يحققوا الأرباح، ويسعون - كل بطريقته - لحصد المكاسب، سواء من خلال دراسة السوق بالشكل الملائم لاختيار أفضل الأسهم لشرائها وتحديد وقت البيع، أو باختيار شركة لإدارة أموالهم في البورصة أو من خلال الاقتداء بنصائح بعض المحللين والمستثمرين، أو حتى بما "يرونه" ملائمًا بغض النظر عن كل ما سبق.
ولذلك لا يرجع صعود الأسهم في كثير من الأحيان لما تعكسه الأسواق من نمو الاقتصاد بشكل عام، والشركات المدرجة في الأسواق بشكل خاص، ولكن لأن غالبية الذين يدخلون إلى الأسواق يدخلون برغبة تحقيق الربح (وهذا منطقي وإن كان له آثاره)، وبالتالي ينزعون بشكل أكبر للرهان على صعود الأسهم وليس تراجعها بما يجعل السوق يتجه بصورة أكبر للصعود.
الثيران تتفوق وآمال الثراء تسود
ولعل هذا من ضمن أسباب تفوق أسواق الثيران على أسواق الدببة من حيث المدة، حيث تصل إلى 4 أضعاف أمثالها في السوق الأمريكية على سبيل المثال، كما تتفوق نسب الارتفاع في الأسواق بشكل عام على نسب الانخفاض بنسبة تفوق 70% في السوق الأمريكية.
فمعظم الناس يرغبون في أن يصبحوا أثرياء في أسرع وقت ممكن، وبالتالي تدعو الأسواق الصاعدة لتجربتها بصورة أكبر، حتى أن أكثر من 90% من المستثمرين يدخلون سوق الأسهم في أوقات الارتفاع العام للسوق، بينما تدخل النسبة الباقية رهانًا على سهم بعينه يملك فرص الارتفاع حتى مع سوق متراجعة.
ويُنتج عن سيادة منطق التفاؤل غير المبرر، أو "الطمع" في بعض الأحيان، ما أطلق عليه رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأسبق "آلان جرينسبان" "الوفرة غير العقلانية"، والتي قصد بها أن السوق قد يبدو محققًا لوفرات كبيرة، ليس لأن حقائقه تقتضي ذلك، ولكن لأن غالبية المتعاملين قرروا اتجاهًا صعوديًا له.
وينطلق "جرينسبان" في تعبيره من تأثير ما يصفه بأسوأ يوم في تاريخ البورصة الأمريكية وهو 19 أكتوبر من عام 1987، حيث قامت كبرى البنوك الأمريكية بالمضاربة رهانًا على استمرار الاتجاه الصعودي للسوق، غير أن لجوءهم لشركات التأمين على المحافظ جعلهم مجبرين في البيع بعد مرحلة معينة من المخاطرة وإلا يصبحون خارج مظلة التأمين.
وبالتالي قامت شركات وبنوك أمريكية كبرى، من بينها "مورجان ستانلي" و"جولدمان ساكس" وغيرها بالبيع في يوم واحد، وهبط مؤشر "داو جونز" بنسبة 23%، ومؤشر "ستاندرد أند بورز 500" بنسبة 20%، وذلك كله بسبب سيادة "الطمع" وفقًا لرئيس الفيدرالي السابق، خاصة لدى كبار المستثمرين الذين يتمتعون بقدرة أكبر على التأثير على الأسواق.
المستثمر أم المضارب؟
ويشير "جرينسبان" أيضًا إلى أن هؤلاء الذين يعملون "بعيدًا عن القطيع" ويعني به جموع المضاربين وليس المستثمرين، يحصدون مكاسب أكبر، على الرغم من إمكان تحقيق المضاربين لمكاسب مالية ضخمة في أوقات قصيرة إلا أنهم يتكبدون خسائر ضخمة أيضًا في أوقات قصيرة بما يجعل الأمر مغامرة.
وتتفق دراسة لجامعة "شيكاغو" الأمريكية مع تقديرات "جرينسبان" حول تأثير الطمع في مقابل الاستثمار، حيث يكسب المستثمر "الناجح" في المتوسط أكثر من المضارب "الناجح" بنسبة 7%، وذلك مع ملاحظة أن نسبة المستثمرين الرابحين تبلغ 85%، بينما لا تتجاوز نسبة نجاح المضاربين 10% فحسب في ظل اعتماد كثير منهم على التخمينات و"الحظ".
ولعل الطمع، مع ارتفاع السيولة في السوق الأمريكية هو ما أدى لسوق صاعدة لـ96% من الأسهم الأمريكية في عام 2020، فوسط وباء يضرب العالم ولم يكن ظاهرًا إلى أين يقود الاقتصادين الأمريكي والعالمي، لم يكن من المنطقي أن يسيطر المؤشر الأخضر على السوق الأمريكية بهذا الشكل ولكن تهافت كثيرين على دخول السوق في هذه الفترة طمعًا في المكاسب قاد السوق لهذا الارتفاع بعد انخفاض سريع في مارس وأبريل 2020.
والشاهد أن حالة عدم الاستقرار التي تشهدها السوق الأمريكية في عام 2022 كانت بشكل كبير بسبب "طمع" 2020، بما يؤكد أن التهافت على الأسهم بهذا الشكل لا يقود صاحبه للخسائر فحسب بل يزعزع استقرار السوق ككل.
فقدان الاتزان
ويعتبر "ديفيد كوهين" مؤلف كتاب " Fear, Greed and Panic: The Psychology of the Stock Market" أو (الخوف والطمع والذعر: سيكولوجيا سوق المال) أن المستثمرين الجادين معرضون كغيرهم للوقوع فريسة للطمع والرغبة في المكسب السريع، ولكن غالبًا ما يتعلمون من تجاربهم السيئة ويلتزمون منهجًا أكثر توازنًا في أي تجربة جديدة.
ويشير "كوهين" إلى أن 70% ممن يدخلون سوق الأسهم على الأقل يقودهم إليه الرغبة في الربح السريع دون بذل الجهد وهو ما يعرف بالدخل السلبي، لا سيما أن هذا الدخل لا يخضع لضرائب في أغلب الدول أو لضرائب محدودة، وبالتالي يكون محركهم الأول لدخول السوق هو الطمع.
ويقدر "كوهين" أن غالبية المتعاملين، أكثر من 80%، يفقدون اتزانهم بفعل الخسائر أو المكاسب المتتالية، فيصرون على الاحتفاظ بالأسهم حال الخسائر رغم حتمية البيع ويبالغون في الاحتفاظ أيضًا بعد تحقيق مكاسب رغبة في تحقيق مكاسب أكثر، بل ويستمر البعض في الاحتفاظ بالأسهم دون مبرر بعد تحول المكاسب إلى خسائر، طمعًا في ارتدادة صاعدة في السوق.
ويعتبر "كوهين" أن سوق المال أحيانًا ما تتحول إلى مكان لنقل الأموال من هؤلاء الذين لا يمكلون خبرات كافية في الاستثمار، إلى هؤلاء الذين يملكون قدرات كبيرة فيه، مشيرًا إلى أن آليات السوق نفسها تدعم المجموعة الأخيرة بوصفها الأوفر مالًا والأقدر على امتلاك زمام أمورها والتحكم في ردات أفعالها وقت الأزمات.
أسهم "أعقاب السجائر"
والشاهد أن "الطمع" يقود كثيرًا من المضاربين إلى الإقبال على الأسهم "الشهيرة" أي تلك التي تحظى باهتمام من غالبية المحللين ويهملون أسهمًا أخرى قد تكون أكثر قدرة على تحقيق المكاسب حالة الالتزام بنهج استثماري طويل المدى.
ويقول "بنجامين جراهام" رائد "استثمار القيمة" إن الحكمة دائمًا في السوق ليست الاستثمار في السهم الذي يقبل الكل عليه، فهذا السهم قد يرتفع بنسبة 50%، بينما حقائقه تشير إلى أنه سينخفض آجلًا أو عاجلًا؛ لأن بيانات الشركة والسوق لا تدعم ارتفاعه لكن ما يصفه بـ"الجشع" لبعض المستثمرين يدعم ارتفاعه.
والشاهد أن بعض المستثمرين قد يراهنون على استمرار قوة الدفع بفعل الجشع لحين انخفاض السوق مجددًا، ولكن الأزمة في رأي "جراهام" هي أن الانخفاض لا يكون مخططًا له وكما هو الحال في الصعود يكون مفاجئًا.
واعتبر "جراهام" أن أسلوب الاستثمار الأمثل هو أسلوب "أعقاب السجائر"، ويعني به أن الأسهم التي يرميها الناس على جانبي الطريق بلا اهتمام يكون على أحدهم جمعها وإعطاؤها القيمة التي تستحقها والتي لا يلتفت لها غالبية المستثمرين بما يسمح بتحقيق أرباح كبيرة ومستقرة.
ويبدو أن أسلوب "جراهام" كان فعالًا؛ حيث حقق أرباحًا تتفوق على السوق باستمرار، حيث حقق 20% كربح سنوي بين أعوام 1936-1956 بينما لم يتعد متوسط السوق في هذه الفترة 12.6% أي أنه حقق الهدف غير المعلن لغالبية المستثمرين الكبار بـ"التغلب على السوق" بشكل واضح، خاصة بعد إقرار مبادئه باستثمار القيمة بعد خسارته أول الأمر خلال الكساد الكبير بين عامي 1929-1932.
المصادر: أرقام- كتاب " Fear, Greed and Panic: The Psychology of the Stock Market"- دراسة " Greed, fear and stock market dynamics"- فورتشن- فوربس
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}