التضخم الجامح في أنحاء العالم، واضطراب أسواق الأسهم الواسع النطاق، والتهديد الوشيك بانزلاق الاقتصاد العالمي إلى الركود، كل هذا كان من المفترض أن يشكل البيئة المثالية للذهب كي يتألق لكن هذا لم يحدث، فالأصل المعروف بكونه ملاذا آمنا انخفضت أسعاره عالميا نحو 20 بالمائة من ذروة بلغها في مارس إلى مستويات تقترب من 1600 دولار للأوقية.
كان الذهب قد سجل أداءً قويًا في الربع الأول من العام الجاري، إذ ظلت أسعاره فوق مستوى 2000 دولار للأوقية لفترة. لكن في الشهور القليلة التالية شهد الذهب تراجعا تدريجيا. فبعد تداوله في نطاق بين 1700 و1800 دولار لعدة أسابيع خلال الصيف، تخلى عن مكاسبه في سبتمبر لينزل دون 1700 دولار.
السبب بسيط، فارتفاع الدولار الأمريكي المتواصل منذ فترة ليست بالقصيرة خطف من الذهب جاذبيته. إذ أدت سلسلة زيادات أسعار الفائدة الأمريكية، إلى صعود مؤشر الدولار لأعلى مستوى في عدة سنوات. وأطلق مجلس الاحتياطي الاتحادي دورة تشديد نقدي قوية في ظل سعيه لمكافحة تضخم آخذ في الارتفاع، بلغ أعلى مستوى في أربعة عقود تقريباً دون أن يبدو في الأفق أي مؤشرات على التغيير.
الذهب ملاذ آمن خلال الأزمات
قال "سيريام إيير" كبير محللي البحوث لدى ريلاينس إندستريز: "عادة، عندما يكون الاقتصاد العالمي في حالة ركود، فإن جاذبية الاستثمار في الملاذ الآمن الذي يشكله الذهب تكسب زخما. وقد حدث ذلك في الماضي أثناء الأزمة المالية العالمية ومؤخرا خلال الأزمة الأوكرانية الروسية. لكن هذه المرة فإن الزيادات الهائلة في أسعار الفائدة جعلت الدولار الأمريكي رهانا أفضل من تجميد الأموال في الذهب".
وأضاف: "الاحتفاظ بالذهب ينطوي على تكلفة. إنه ليس مجانيا. بالمقارنة، فإن الاحتفاظ بالدولار الأمريكي (السيولة) يبدو أنه يمثل بديلا أكثر أمانا في ظل السيناريو الحالي".
وعلى الرغم من تراجع الذهب، فإن أسعاره تتقلب بين كل حين وآخر صعودا وهبوطا، لكن المتعاملين يرون أنه من المرجح أن تؤدي دورة رفع أسعار الفائدة إلى الحد من احتمال تحقيق الذهب أي مكاسب مستدامة أو كبيرة. ويتأثر المعدن الأصفر بشدة بتحركات الدولار الأمريكي الذي عادة ما يصعد مع ارتفاع الفائدة عليه، إذ إن الذهب يضحى أعلى تكلفة للمشترين بعملات بخلاف العملة الأمريكية. ولذا فإن أسعار الذهب عادة ما تتفاعل مع البيانات الاقتصادية الأمريكية إذ إن أي تحسن يطرأ على مؤشرات الاقتصاد يقلص الطلب على الذهب.
وعلى الرغم من أن الذهب أداة للتحوط خاصة في أوقات ارتفاع التضخم الذي يقلص القوة الشرائية للنقد، فإن صعود أسعار الفائدة أكثر عادة ما يقلص جاذبيته إذ إنه يرفع كلفة الفرصة الضائعة لحيازة الأصل الذي لا يدر عائدا.
قال "إدوارد مويا" كبير المحللين لدى أواندا: "نحن في الغالب نتطلع إلى سوق ذهب ستظل تتفاعل مع كل شيء بشأن الدولار وكل شيء بشأن توقعات مجلس الاحتياطي الاتحادي".
تدافع صوب السندات والدولار
ومع ارتفاع أسعار الفائدة، يتخلى المستثمرون عن الذهب من أجل خيارات رابحة مثل السندات، إذ تقدم سندات الخزانة الأمريكية لأجل عشر سنوات عائدا سنويا يبلغ نحو أربعة بالمائة.
ويقول محللون إن الدولار الأمريكي، الذي يعتبره المستثمرون ملاذا آمنا أيضا، يتفوق على الذهب حاليا كونه وجهة مفضلة للمستثمرين، وينعكس هذا في التدفقات الحادة من صناديق المؤشرات المتداولة للذهب والتي من المرجح أن تستمر بالرغم من مخاوف الركود.
وشهدت صناديق المؤشرات المتداولة للذهب العالمية نزوحا للتدفقات للشهر الرابع على التوالي. وكشفت بيانات مجلس الذهب العالمي أن التدفقات بلغت 2.9 مليار دولار في أغسطس. وبهذا فإن ثلثي التدفقات التي دخلت إلى الذهب في أبريل محيت بالكامل وفقا لمجلس الذهب العالمي.
وبحسب تقديرات "مويا" فإن قاع أسعار الذهب هو أدنى مستوى في عامين تقريبا أو بالقرب منها.
لكن الوضع ليس كذلك في كل دول العالم، ففي الهند، وهي إحدى أكبر أسواق الذهب في العالم، تسبب ضعف الروبية في دعم أسعار الذهب المحلية مما أدى إلى تباين بين أسعار المعدن الأصفر داخل البلاد وفي أنحاء العالم.
مسار صعب في ظل آمال بالارتفاع
من الصعب التنبؤ بمسار الذهب، لكن المؤشرات تشير إلى أنه في الربع الأخير من العام قد يواجه المعدن الأصفر المزيد من الصعوبات في ظل توقعات استمرار دورة التشديد النقدي في الولايات المتحدة، فأسعار الفائدة سترتفع لحين نزول التضخم قرب هدف البنك المركزي الأمريكي البالغ اثنين بالمائة. ويتوقع بعض المحللين أن يرفع المركزي أسعار الفائدة إلى 4.5 بالمائة وبالطبع كلما واصل المركزي التشديد وزاد عمق المسار المتوقع لأسعار الفائدة كان ذلك أسوأ للذهب.
يقول بعض المحللين إنه ما لم تعدل البنوك المركزية العالمية سياساتها النقدية المشددة، فمن المستبعد أن يعاود الذهب مكاسبه. وفي ظل الوضع الحالي، فإن تغيير البنوك المركزية نهجها أمر غير وارد.
لكن يجب التنبه إلى أن الذهب واحد من أفضل الأصول أداء في العالم مقارنة مع الأسهم وبقية العملات بخلاف الدولار الأمريكي. وفي وقت ما، إما أن ينحسر التضخم أو يحدث الركود. ففي أغسطس، زادت توقعات بلومبرج لاحتمال الركود في الولايات المتحدة من 40 إلى 50 بالمائة، بينما وفقا للبنك الدولي فإن قيام البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم برفع أسعار الفائدة بشكل متزامن استجابة للتضخم، فإن العالم قد يتجه نحو ركود عالمي في 2023.
وإذا حدث ذلك، من المرجح أن يعكس الاحتياطي الفيدرالي مساره وقد يرتفع الذهب مرة أخرى خاصة إذا كان الانكماش الاقتصادي مصحوبا بتضخم مرتفع.
تاريخيا، كان أداء الذهب جيدا نسبيا خلال فترات الركود التضخمي والكساد، فبحسب بيانات مجلس الذهب العالمي، بلغ متوسط عائد الذهب خلال هذه الفترات 0.92 بالمائة ما يزيد على فئات الأصول الرئيسية المماثلة باستثناء سندات الخزانة الأمريكية وسندات الشركات.
كما قد يتلقى الذهب الدعم قليلا من قيام أوكرانيا بهجوم مضاد على روسيا، إذ إن ذلك يزيد من احتمال التوصل إلى تسوية وتبديد أزمة الطاقة في أوروبا خلال فصل الشتاء.
بالطبع فإن انتظار أن يعدل المركزي الأمريكي سياسته ربما يطول، لكن يوجد يقين من أنه في مرحلة ما سيتوقف عن زيادة أسعار الفائدة، من الصحيح أننا لا نعرف متى سيحدث هذا، لكن البعض يقول إنه من المحتمل أننا بالفعل تجاوزنا ذروة دورة التشديد النقدي في الولايات المتحدة، والزيادات القادمة للفائدة ستكون أقل حدة مقارنة بتلك التي شهدها سبتمبر والأشهر السابقة.
يرى البعض أيضا أن مؤشر الدولار الأمريكي والزيادات في أسعار الفائدة الحقيقية وصلت بالفعل ذروتها. وبالتأكيد فإن تعديل المركزي الأمريكي سياسته بالكامل والتحول إلى التيسير النقدي إيجابي للذهب، لكن، حتى لو لم يفعل البنك المركزي ذلك، واختار الاستمرار في التشديد ولكن بوتيرة أقل فإن ذلك سيقدم الدعم للذهب.
المصادر: أرقام-رويترز- منت- Mining.com
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}