فيتنام والأرقام المذهلة .. من بلد بدائي إلى نجم بازغ في جنوب شرق آسيا والعالم

هم أكثر شعوب العالم تأييداً للشيوعية ثم تحولوا إلى النقيض بعد عقود من الارتماء في أحضانها ليصبحوا أكثر الشعوب تأييداً لمبادئ السوق الحر والقيم الرأسمالية حتى تفوقوا على مؤسسي النظرية الرأسمالية في الغرب نفسه، تبوؤوا مكانة متقدمة ضمن أفضل عشرين دولة في العالم في معدل التشغيل وكذلك البطالة المنخفضة في سوق العمل، وكذلك استطاعوا دخول قائمة أسرع اقتصادات آسيا والعالم تحقيقاً لمعدلات نمو اقتصادية مذهلة آخر عشرين عاما، وتُصنف بلادهم ضمن مجموعة قليلة ونادرة من البلاد التي تتخطى حجم تجارتها الخارجية إجمالي حجم ناتجها المحلي، إنها فيتنام أرض المعجزات والمتناقضات والكره الدفين لكل ما هو صيني.

خاضت فيتنام نحو عشرة حروب منذ عام 1940، لذا فهي بلد فككتها وأنهكتها الصراعات العسكرية والتجاذبات الإقليمية، وكل هذا سببه الرئيسي هو موقعها المتفرد والذي يعطيها اليد الطولى في كل منطقة جنوب شرق آسيا، والتي بدورها منطقة تُطل على أهم ممر تجاري بالقرب من القلب الصلب للصناعة العالمية حيث الصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية وتايوان، هؤلاء الخمسة الصناعيون يمثلون بمفردهم نحو نصف القيمة المضافة الصناعية لكل كوكب الأرض، وفيتنام في قلب هذا الشكل الهندسي الآسيوي المُخمس بإطلالة متفردة على بحر الصين الجنوبي.

الصين.. كره دفين منذ آلاف السنين

هناك تنافس وغيرة محمومة بين الأمتين والحكومتين منذ سنوات طويلة، يصل الأمر إلى حد الكره المطلق ورغم ضخامة القدرات الصينية مقارنة بالفيتنامية من الناحية الإقتصادية والعسكرية، إلا أن "هانوي" استطاعت بناء اقتصاد قوي بجانب استغلال الأوراق التي في يدها لتشكيل تحالفات إقليمية ودوائر أمنية حول مجالها الحيوي تمثل حصونا وجدار حماية يقيها شر ما يأتي من خلفه من ناحية الشمال الغربي حيث التنين الصيني، كما أن الغيرة من الصينيين كانت دافعاً رئيسياً في قصة النهضة الاقتصادية الفيتنامية.

النجاح يُولد من الألم

ومن رحم المعاناة والحروب المتواصلة التي أدت بدورها إلى قرارات طائشة مثل غزو كمبوديا والتي نتج عنها عقوبات غربية - أمريكية أدت إلى تعميق تدهور الاقتصاد ومعيشة الفيتناميين، وُلدت النهضة مع وصول مهندس التجربة الاقتصادية الفيتنامية "فان لين" وإطلاقه برنامج "دوي موي" الشهير، والذي بدأ بإصلاحات جذرية وقانونية وتغير بيئة ومناخ الأعمال ناحية اقتصاد السوق وفتح البلاد للاستثمار وتشجيع القطاع الخاص ليقود قاطرة التنمية مقابل تراجع مساهمة الدولة والاكتفاء بدورها في البنية التحتية والتشريع والتنظيم وخلق بيئة تنافسية أكثر ديناميكية وأقل بيروقراطية.

أسرع الاقتصادات نمواً

في السنوات العشر الأخيرة استطاعت فيتنام تحقيق معدلات نمو اقتصادية متراكمة تجاوزت 169%، مما جعلها واحدة من أسرع الاقتصادات نمواً حول العالم بالعقد الأخير، بل ومنذ 2004 والبلاد تحقق معدل نمو لا يقل عن 6% عدا فترات قليلة في الأوقات الاستثنائية مثل الأزمة المالية العالمية وجائحة كورونا.

العمالة الرخيصة والموقع المتميز

بفضل انخفاض سعر الصرف، يتمتع الدولار الأمريكي بمميزات كبيرة في فيتنام من ضمنها توفير العمالة الرخيصة هناك التي تعد أقل تكلفة من نظيرتها في العديد من الاقتصادات الناشئة كالصين والمكسيك وغيرها، إضافة إلى الموقع المتميز والإطلالة التنافسية على بحر الصين الجنوبي وممرات التجارة العالمية هناك، استطاعت فيتنام أن تجعل من نفسها قبلة للشركات والمصانع التي تبحث عن حلول أرخص من الصين وقريبة من ممرات التجارة في جنوب شرق آسيا.

القوة الدافعة

صادرات فيتنام تمثل القوة الدافعة الرئيسية للنمو الاقتصادي بعكس معظم دول العالم والمتوسط العالمي للنمو والذي يأتي أغلبه من الاستهلاك ثم الإنفاق الحكومي، بينما في فيتنام فإن التجارة الداخلية هي قاطرة النمو الحقيقية وهي المصدر الرئيسي لخلق فرص العمل، وهو ما يدلل على عبقرية في استخدام الموقع الجغرافي وتحقيق أكبر مكاسب ممكنة من ذلك، للدرجة التي دفعت الصادرات لتجاوز حجم اقتصاد الدولة بأكمله في عام 2017 وحتى الآن رغم جائحة كورونا، دقق في هذه المقارنة بين فيتنام واثنين من أقوى الاقتصادات الصناعية في العالم : الصين وألمانيا.

استضافة قمة "بايدن – كيم"

شكلت استضافة فيتنام للقمة الرئاسية بين قادة الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الشمالية في إطار استئناف الحوار حول الملف النووي الكوري والصواريخ الباليستية طويلة المدى، قوة دفع لإعادة تقديم فيتنام للعالم وتبوئها مكانة دولية رفيعة كوسيط دولي رزين وعاقل يمكن أن يلعب دوراً في منطقة جنوب وجنوب شرقي آسيا، ورغم فشل القمة في أن تؤدي إلى مصالحة وتهدئة بين "واشنطن" و"بيونج يانج" إلا أن فيتنام هى الرابح الوحيد من هذه الاستضافة التي أوضحت للعالم بأسره القدرة على التنظيم وإدارة لوجستيات وتأمين مفاوضات دولية بهذه الدرجة من التعقيد والضخامة.

الدرس المستفاد في المحصلة النهائية، هو أن فيتنام قصة صعود مذهلة بكل المقاييس، مرت تجربتها النهضوية بمراحل مخاض وتعثرات وآلام كثيرة قبل أن ترى النور والنجاح، لكن بمجرد ما لمست مذاق التفوق واحترام العالم والمكانة الدولية المرموقة ومن وقتها لم تترك الصدارة والقمة على الأقل في إقليم ملتهب وتنافسي وشرس مثل إقليم جنوب شرق آسيا الذي يحرك اقتصاد الكوكب بأكمله ويعتبر رئة وقلب الصناعة والتجارة الدولية في العقود الأخيرة والمقبلة.

المصادر: أرقام – بلومبرغ – البنك الدولي - مكتب إحصاءات الاتحاد الأوروبي - مركز أبحاث واستطلاعات pewresearch - Global Economics - Grace Media - The OECD Development Centre - VTV World - CNA Insider - VisualPolitik EN - vox.com - statista.com.