في عددها الخاص بشهر يناير من عام 1980، نشرت مجلة "هارفارد بيزنس ريفيو" مقالاً قالت فيه: "إن بنك أوف أمريكا هو أكبر بنك في العالم، حيث يمتلك 1100 فرع ويعمل في أكثر من 100 بلد مع إجمالي أصول قدرها 100 مليار دولار. ويرى العديد من المراقبين أن الإنجاز الذي لا يقل أهمية عما سبق هو جودة إدارة البنك".
لكن في غضون 8 سنوات فقط من ذلك التاريخ نجح أحدهم في إبعاد البنك عن موقعه كأحد أفضل الشركات المالية في العالم ودفعه نحو تحقيق أكبر خسائر في تاريخ قطاع البنوك الأمريكي، وهي الخسائر التي أثرت على سوق الأسهم وكذلك على الدولار الأمريكي، وتسببت في خسارة البنك لأكثر من 80% من قيمته السوقية.
الرئيس الجديد
في ديسمبر من عام 1980، اجتمع أعضاء مجلس إدارة "بنك أوف أمريكا" الستة والعشرون لاختيار رئيس تنفيذي جديد للبنك بدلاً من رئيسه في ذلك الوقت "توم كلاوسن" الذي أعلن تنحيه عن منصبه من أجل رئاسة البنك الدولي.
انتهى الاجتماع - الذي شبهته "فوربس" باجتماع الكرادلة من أجل اختيار بابا جديد للفاتيكان - باختيار "صموئيل أرماكوست" البالغ من العمر 41 عاماً رئيسا تنفيذيا جديدا للبنك الأكبر في أمريكا في ذلك الوقت.
ومباشرة بعد اختياره صرح "أرماكوست" لـ"وول ستريت جورنال" أنه يعتقد أن البنك يحتاج لدفعة جديدة إلى الأمام (وفي الحقيقة دفعه فعلاً ولكن نحو الهاوية).
بعد سبعة أشهر من توليه لمنصبه، قرر "أرماكوست" شراء شركة السمسرة "تشارلز شواب" والتي تعمل في مجال جديد على البنك، وذلك قبل أن يقوم بأكبر عملية استحواذ مصرفية في تاريخ الولايات المتحدة في ذلك الوقت حين اشترى "سيفيرست بنك".
في الوقت نفسه قام "أرماكوست" بتخصيص 100 مليون دولار من أموال "بنك أوف أمريكا" من أجل تمويل التوسع في نشر أجهزة الآلي وبناء أكبر شبكة منها في كاليفورنيا. "لم نعد نمتلك رفاهية الجلوس والانتظار لنتعلم من أخطاء الآخرين قبل أن نقرر ما سنفعله. دعوا الآخرين يتعلمون منا" هكذا قال "أرماكوست" لأعضاء مجلس الإدارة الذين تساءلوا عن مدى فاعلية وجدوى هذه الإجراءات المتسارعة.
غليان تحت السطح
الكارثة هي أن "أرماكوست" والكثير من أعضاء مجلس إدارته كانوا يتجاهلون باستمرار الإشارات التحذيرية التي تصلهم من آن لآخر حول مدى سوء الأوضاع بالبنك.
على سبيل المثال يحكي "بيت تالبوت" الذي انضم إلى "بنك أوف أمريكا" في عام 1983 أنه أثناء حضوره أحد الاجتماعات مع كبار المسؤولين التنفيذيين بالبنك قدم أحد الموظفين عرضاً مدته 15 دقيقة حول محفظة البنك من القروض الزراعية، أشار خلاله إلى وجود مشاكل في ما يبلغ إجماليه مليار دولار من هذه القروض.
يقول "تالبوت": "لم يعلق أحد على ما عرضه ذلك الموظف ولم يسأل أحدهم أي سؤال، وانتقلوا مباشرة إلى موضوع آخر. وحينها رفعت يدي على استحياء وقلت لهم ألا تخيفكم تلك الأرقام؟ أنا لم أر شيئاً كهذا في حياتي. فقالوا لا، لا تخيفنا، فهذه مجرد مشكلات سنتعامل معها".
ولكن مشاكل البنك لم تتوقف عند هذا الحد. فما زاد الأمور سوءًا هو قيام البنك في عام 1984 بتوسع غير مدروس في توفير الائتمان للأفراد. فقد كان يتم منح القروض لجميع المتقدمين دون بذل أي مجهود في التأكد من جدارتهم الائتمانية.
وبحسب "تابلوت" كانت فروع البنك تعطي القروض التي تتراوح قيمتها من 10 آلاف إلى 25 ألف دولار إلى أي عميل يدخل من الباب تقريباً. ولم يمر الكثير من الوقت قبل أن يكلف هذا البرنامج الائتماني البنك ملايين الدولارات من الخسائر التي جاءت في صورة قروض متعثرة.
هذا السلوك غير المسؤول من قبل إدارة البنك جذب انتباه "هيئة مراقبة العملة" بالولايات المتحدة، والتي قامت في ربيع عام 1984 بمراجعة شاملة للبرنامج الائتماني الذي يرعاه البنك. وبحلول منتصف العام، تم إرسال النتائج الأولية إلى مجلس إدارة البنك.
كان التقرير "قاتلا" بحسب وصف أحد أعضاء مجلس إدارة البنك السابقين الذي أتيحت له فرصة الاطلاع عليه. ولكن الرئيس التنفيذي للبنك هاجم التقرير الذي أعدته المؤسسة الحكومية واعتبره إهانة شخصية له، ورفض الاعتراف بأي من المشاكل التي أشار إليها ذلك التقرير.
بيع الأصول لتمويل توزيعات الأرباح
في عام 1984 اضطر البنك لشطب أكثر من 900 مليون دولار من القروض المعدومة. وحينها أخبر "أرماكوست" مجلس الإدارة أن الأسوأ قد انتهى وأن عام 1985 سيشهد تحسناً كبيراً في أداء البنك. وعلى هذا الأساس رفض اقتراح أعضاء مجلس الإدارة خفض أو تعليق توزيعات الأرباح لفترة في اجتماع عقد في أغسطس 1985.
لكن في نفس العام أصدر مجلس الاحتياطي الفيدرالي بياناً استنكر فيه قيام أي شركة مصرفية ببيع أصولها لتمويل توزيعات الأرباح، مشدداً على أن الأرباح الموزعة يجب أن يكون مصدرها أعمال البنك الأساسية. كل من في السوق كان يعرف أن البنك المقصود بهذا البيان هو "بنك أوف أمريكا" على خلفية قيامه ببيع بعض أصوله التي كان من بينها مقره في سان فرانسيسكو.
في عام 1986 تم تعيين بنك "سالمون برازرز" من أجل إجراء مراجعة الوضع المالي لـ"بنك أوف أمريكا". وفي تقريره المكون من 46 صفحة أوضح أن "بنك أوف أمريكا" يمكنه الوقوف على قدميه مرة أخرى إذا تمكن من زيادة رأس ماله.
كان "أرماكوست" بالفعل قد أخبر مجلس الإدارة في أبريل من ذلك العام بأن البنك قد يتمكن من جمع مليار دولار من السوق المفتوحة، إلا أن الخسارة القاسية التي سجلها بنك أوف أمريكا خلال الربع الثاني أضعفت حماس المستثمرين تجاه السهم. وهكذا لم يبق أمامه أي خيار سوى بيع جزء من أصوله، لكن لم يكن هناك الكثير من الأصول لبيعها.
في نفس العام قام مديرو البنك من الخارجيين بإجراء استطلاع غير رسمي بينهم حول إقالة "أرماكوست" من منصبه، ولكن لحسن حظه نجا بفارق صوت واحد، وذلك ربما لأن أعضاء مجلس الإدارة لم يكن لديهم أي اسم محدد يمكنه شغل المنصب.
"كلاوسن" يعود مرة أخرى
هذه الحالة من الفوضى لم تبق سراً داخل أروقة البنك كثيراً، حيث سرعان ما تسربت إلى السوق وهو ما دفع عدد من عملاء البنك إلى البدء في سحب ودائعهم. وبمجرد أن شعر بذلك الخطر خرج "أرماكوست" على الفور على إحدى القنوات الإذاعية محاولاً طمأنة المودعين.
لكن الخسارة البطيئة للودائع استمرت، ليبلغ مجموع ما تم سحبه حوالي ملياري دولار. وأقلق هذا الوضع أعضاء مجلس الإدارة الذين بدؤوا يتناقشون حول من سيحل محل "أرماكوست" في رئاسة البنك.
في ذلك الوقت، رفض "توم كلاوسن" رئيس البنك الدولي والرئيس التنفيذي السابق أن يطلب التجديد له لولاية أخرى كرئيس للمؤسسة الدولية، وعبر وسطاء أخبر عددا من أعضاء مجلس إدارة بنكه السابق المتعثر أنه مستعد للعودة رئيساً تنفيذياً للبنك.
في أكتوبر من عام 1986 اجتمع أعضاء مجلس إدارة "بنك أوف أمريكا" الذين أزعجتهم السحوبات الكبيرة التي تشهدها الودائع من أجل مناقشة الوضع. وبعد ساعات من المداولات اتصل أحد أعضاء المجلس بـ"كلاوسن" وأخبره برغبة المجلس في عودته لمنصبه.
في صباح اليوم التالي تم إخبار "أرماكوست" بالقرار. وعلى الرغم من أنه كان يتوقعه منذ فترة كبيرة إلا أنه استمر في الاعتقاد بأنه كان قادراً على إحداث تغيير بالبنك. وبحسب ما ذكرته "فورتشن" أخبر "أرماكوست" أحد مساعديه أثناء قيامه بجمع أغراضه من مكتبه بأنه يعتقد أن مجلس الإدارة ارتكب خطأً كبيراً حين أقاله.
غادر "أرماكوست" وعلى الفور بدأ الرئيس التنفيذي القديم الجديد "كلاوسن" مهمته بإجراء عملية تقييم شاملة للبنك من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه بأسرع وقت.
الشاهد من هذه القصة هو أن الإدارة ربما هي العنصر الأكثر أهمية في أي شركة. ومن المهم جداً قبل أن تفكر في الاستثمار بأي شركة أن تنظر في سجل وتاريخ الفريق الإداري القائم عليها. فكما يعرف الجميع، ترتبط الربحية ارتباطاً وثيقاً بقدرة الإدارة على اختيار الاستثمارات الصحيحة واتباع أفضل الاستراتيجيات.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}