نبض أرقام
01:14 ص
توقيت مكة المكرمة

2024/11/28
2024/11/27

كيف يُسقط الاقتصاد الإمبراطوريات؟

2019/06/04 أرقام - خاص

يُشير ابن خلدون في مقدمته إلى أن الأمم تمر بخمس مراحل في بنائها، أهمها وأكثرها خطورة هي مرحلة "الزخرفة"، والتي تنزع فيها الدولة بعد اكتمال مكونات قوتها إلى تجميل ما أقامته في مراحل سابقة من مبانٍ بدلًا من تقديم إنتاج جديد.

 

ويشير "هيجل" في أكثر من موضع إلى أن تراجع الإمبراطوريات وانهيارها غالباً ما يبدأ بسبب التراجع الاقتصادي قبل غيره، وهو ما يتضح في حالة العديد من الإمبراطوريات بدءاً من الرومانية، مروراً ببريطانيا العظمى وانتهاء بالسوفيتية (وغيرهم كثير).

 

 

مِن الأسرع نمواً للانهيار

 

وتشير دراسة لـ"هارفارد" إلى أن الاقتصاد السوفيتي كان أسرع اقتصادات العالم تحركاً بين عامي 1928-1970، وإن أشارت بعض المراجع الاقتصادية إلى تفوق الاقتصاد الياباني من حيث النمو في تلك الفترة إلا أن الهزيمة في الحرب العالمية الثانية شكلت نكسة كبيرة للاقتصاد الآسيوي لأعوام متتالية.

 

وتراجعت معدلات النمو الاقتصادي في بداية الثمانينيات لتبلع 1.9% سنوياً بعد أن تخطت سقف 5-6% خلال سنوات الستينيات والسبعينيات بما يعكس بداية المعاناة للاقتصاد، قبل عشر سنوات من انهيار الإمبراطورية السوفيتية رسمياً.

 

ولعل أحد أهم عوامل تداعي الإمبراطورية السوفيتية الفساد، ويشير تقرير لمجلة "أتلانتيك" إلى أن بعض المشاريع في موسكو كان يتم تنفيذها بـ1500% من تكلفة تنفيذها في الولايات المتحدة على الرغم من أن جودة التنفيذ في الولايات المتحدة كانت أعلى بما يؤكد وجود درجة عالية من الفساد على الرغم من عدم تداخل القطاع الخاص به.

 

وتشير دراسة لجامعة "كولومبيا" إلى أن السبب الرئيسي وراء تراجع الإمبراطورية السوفيتية اقتصادياً يتمثل في قرارها منافسة الولايات المتحدة في برامج التسليح بما كان له أثر سلبي عميق عليها، معتبرة أن الرئيس الأسبق "ريجان" نجح في استدراج موسكو لهذا الطريق لتهزم نفسها بنفسها.

 

فشل في مواكبة أمريكا

 

في الوقت الذي لم يتعدَ ما أنفقته الولايات المتحدة على برنامجها للفضاء 0.5-1% من الدخل القومي سنوياً، وصلت النسبة نفسها في الاتحاد السوفيتي إلى 3-5% بما يعكس ضغطاً كبيراً على ميزانية الدولة العظمى.

 

 

ويرجع هذا لتفوق الولايات المتحدة الاقتصادي الواضح على الاتحاد السوفيتي من حيث حجم الناتج المحلي، ومن ثم اضطر الاتحاد السوفيتي لإنفاق نسب أعلى من واشنطن للحفاظ على السباق نحو ما وصفه "ستالين" سابقاً بـ"المجد القومي" للاتحاد السوفيتي.

 

كما أن الاتحاد السوفيتي بدأ في التراجع عن نقاط قوته الاقتصادية ومنها على سبيل المثال لا الحصر صناعة الصلب، حيث تراجع إنتاج دول الاتحاد منه بنسبة 42% في منتصف الثمانينيات عنه في بدايته واعتمدت موسكو على استيراده من دول أوروبا الشرقية الأخرى والصين.

 

كما أن التراجع الكبير في أسعار النفط من 66 دولاراً للبرميل عام 1980 إلى 20 دولاراً بحلول عام 1986 كان له دور كبير في تقليص الإيرادات السيادية التي تعتمد عليها الإمبراطورية السوفيتية في توجيه مواردها.

 

عوامل هيكلية

 

وفي هذا الوقت لم تتراجع المساعدات والمنح السوفيتية بهدف مساعدة الدول الحليفة، بل زادت خلال السنوات الخمس الأولى من ثمانينيات القرن الماضي بنسبة 24% بما وضع المزيد من الضغوط على الميزانية المنهكة بالفعل.

 

ومع تضافر عوامل أخرى تصفها "فورين بوليسي" بـ"الهيكلية" في الاقتصاد السوفيتي ومنها غياب حافز الإبداع للعمالة في ظل عدم وجود حوافز مادية بل وحتى معنوية في كثير من الأحيان لتقديم إنتاج مميز، وغياب الربط بين المؤسسات التعليمية واحتياجات الدولة والبطالة المقنعة وغيرها من المشكلات المرتبطة بالاقتصاد الشيوعي كان تأثير التراجع في الثمانينيات مضاعفاً.

 

وتشير الدورية الأمريكية إلى أن "اقتصاد الأوامر" الذي اعتمدت الإمبراطورية السوفيتية عليه غير مستقر بطبيعته، حيث إنه لا يخضع لرغبة المستهلكين أو المنتجين، ولكن لرغبات ولـ"تصورات" المسؤولين عن رسم السياسة الاقتصادية بما يجعله بعيداً عن الكفاءة والاستجابة لاحتياجات السوق.

 

ففي المراحل الأولى للإمبراطورية السوفيتية اعتادت السلطات إجراء استطلاعات واسعة للقرارات الاقتصادية، على الأقل بين أعضاء الحزب الشيوعي الحاكم، ولكن مع الوقت أصبحت القرارات أكثر مركزية ويتحكم فيها مجموعة من المسؤولين بعيداً عن فكرة قياس رد الفعل أو التأثير.

 

الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس

 

وتؤكد دراسة لـ"أكسفورد" أن أحد أهم أسباب بقاء بريطانيا "على قيد الحياة" إبان الحرب العالمية الثانية كان قدرتها على توفير الموارد الاقتصادية من خارجها، أي قدرتها على تصريف جزء كبير من إنتاج المصانع الإنجليزية داخل المستعمرات البريطانية بما أبقى على الناتج المحلي الإجمالي دون تغير يذكر طوال سنوات الحرب وحافظ على اقتصاد قوي قادر على تحمل نفقات المواجهات العسكرية.

 

 

وفي هذا الإطار تشير الدراسة إلى أن حجم التجارة البريطانية مع مستعمراتها لم يعرف إلا تغيراً في حدود 3-5% سنوياً بالزيادة والنقصان منذ عام 1913 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945 بما حفظ للندن متنفساً مستمراً لم تمتلك دول أخرى مثله، بما في ذلك ألمانيا النازية، والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.

 

وكان هذا "المدد" الاقتصادي أحد أهم أسباب قدرة بريطانيا على الصمود في وجه القصف النازي المستمر، إذ كانت قادرة على إعادة بناء ما تهدمه القوة النازية في زمن قياسي إذا ما قورنت بقوى أوروبية أخرى لم تستطع الحفاظ على اقتصادها بنفس الطريقة.

 

ويشير كتاب "صعود وأفول الإمبراطورية البريطانية: تاريخ القرن العشرين" إلى أن بريطانيا اعتمدت على مستعمراتها في تصريف حوالي 70% من منتجاتها، وحصلت على 90% من احتياجاتها من المواد الخام منها.

 

ولذلك شهد الاقتصاد البريطاني تراجعاً حاداً إبان عقد الخمسينيات من القرن الماضي، وعلى الرغم من إرجاع الكثير من المراجع التاريخية ذلك لضعف القيادات البريطانية في ذلك العهد، إلا أن الكتاب يعتبر أن السبب الرئيس وراء ذلك كان تحرر الكثير من البلاد (وعلى رأسها الهند) بما قلص كثيراً من الصادرات البريطانية وحد من حرية الحصول على المواد الخام.

 

الإمبراطورية الرومانية

 

أما الإمبراطورية الرومانية فلا تتوافر بيانات اقتصادية دقيقة عن تلك الفترة ولكن بيانات المؤرخين تشير إلى تراجع الاهتمام بمد الطرق في أنحاء الإمبراطورية الشاسعة على حساب الاهتمام بإقامة التماثيل الضخمة والمعابد الواسعة، بما يعكس توجه الموارد لصور غير مُنتجة من الاستغلال.

 

فالإمبراطورية الرومانية قامت بالأساس على شبكة واسعة غير مسبوقة من الطرق، وأسطول سفن كبير للغاية، مكّن الرومان من التجارة مع مختلف أنحاء العالم، فضلًا عن وجود شكل جديد من البنية التحتية التي تتعدى حدود المدن الرئيسية لتشمل المستعمرات الخارجية.

 

 

وتشبه الإمبراطورية الرومانية نظيرتها الأمريكية حالياً في سيطرة عملتها أيضاً على الاقتصاد العالمي من خلال القبول بالذهب الروماني على نطاق واسع عالمياً، وتراجع ذلك بشدة مع بدء الإسراف في طباعتها بما جعل قيمتها تقل وأثر على موقف الإمبراطورية عالمياً.

 

وبذلك يتأكد أنه وبغض النظر عن سبب التراجع الاقتصادي، وما إذا كان إسرافاً في غير موضع، أو إدارة "غير رشيدة" للاقتصاد، أو الاعتماد على "التصورات"، أو غير ذلك، فإن نجم الإمبراطوريات –قديمة أو حديثة- يبدأ بالأفول متى لم تستطع الاستمرار في القدرة على التوسع أو حتى مجرد "صيانة" البنية التحتية الاقتصادية القائمة.

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.