هناك نمط سائد من التعليقات على موقع "تويتر" يستطيع أن يلاحظه بسهولة الموجودون منا في هذه الساحة الإلكترونية، وهو مطاردة البعض لمشاهير المستثمرين والمحللين في سوق الأسهم السعودي وسؤالهم أسئلة من نوعية: ما رأيك في السهم "س"؟ ما توقعك لمستقبل الشركة "ص"؟ هل تنصحني بشراء السهم "ع"؟ هل تستثمر في الشركة "ن"؟ وما إلى ذلك...
بعضهم قد يحصل على إجابة ممن وجه إليه السؤال ولكن أكثرهم يتم تجاهله وهو ما يصيبهم بالإحباط ويدفعهم إلى اتهامه بالأنانية وربما التعالي. وانطلاقاً من شعورنا بالمسؤولية تجاه هؤلاء نقول لهم الآتي:
ما هو أقصى شيء قد يساعدك به من تسأله؟ أجيب أنا بدلاً عنك، أقصى شيء هو أن يخبرك باستراتيجيته الاستثمارية ويكشف لك محفظته بالكامل ليصبح بإمكانك مطابقتها بالحرف. هل يوجد شيء أكثر من هذا؟ شخصياً، لا أعتقد. لكن هل تعلم أنه حتى لو فعل ذلك أنت على الأرجح لن تحقق نفس العوائد التي سيحققها هو، بل إنك قد تخسر في نفس الوقت الذي يحقق هو فيه مكاسب معتبرة بنفس المحفظة.
على المكشوف
هذه المفارقة المثيرة للفضول تبدو أكثر وضوحاً في سوق الأسهم الأمريكي وهو سوق أكثر انفتاحاً بالطبع.
ففي هذا السوق يتبادل ويتشارك عشرات الآلاف من كبار المستثمرين والمحللين استراتيجياتهم وأساليبهم الاستثمارية ويطرحونها علانية بشكل يومي دون أي خوف من وقوع أي ضرر جراء مطابقتها من قبل جمهور المستثمرين.
في عالم الاستثمار ربما لا يوجد من هو أشهر أو أنجح من "وارن بافيت". ومنذ بداياته في السبعينيات، لم يكف الرجل عن شرح أسلوبه وفلسفته الاستثمارية للعالم. والأكثر من ذلك هو أننا لا نستطيع فقط أن نعرف استراتيجيته وفلسفته بل بوسع أي شخص لديه اتصال بالإنترنت أن يعرف كل الأسهم التي يستثمر فيها "بافيت" وذلك بفضل القواعد التنظيمية للبورصة الأمريكية.
ورغم كل ذلك، تفشل الأغلبية الكاسحة من المستثمرين في مضاهاة أداء "بافيت" أو التفوق عليه، بل إنها قد تخسر بمحفظة طبق الأصل من محفظته! كيف يحدث هذا؟ ببساطة تظل هناك أشياء غير قابلة للتقليد يتميز بها "بافيت" كمستثمر هي التي تساهم في نجاحه بهذا الشكل. فعلى عكس ما قد يعتقده البعض، إن الاستثمار بالأسهم ليس له وصفة سرية من يعرفها ينجح ويحقق المكاسب.
مع ظهور الذكاء الاصطناعي ودخول تطبيقاته إلى مجال الاستثمار بقوة في بداية العقد الحالي تعالت الأصوات المشيرة إلى أن أسلوب "بافيت" وأمثاله من كبار المستثمرين القائم على التقدير الإنساني للأمور قد عفى عليه الزمن، وأن الذكاء الاصطناعي بإمكانه التفوق على السوق لأن باستطاعته معالجة كم أكبر من المعلومات بطريقة أسرع وأكثر فاعلية.
لكن الواقع يشير إلى أن "بافيت" استطاع التفوق على أغلب الصناديق القائمة على الذكاء الاصطناعي والتي تحرص بالمناسبة على التكتم على أساليبها واستراتيجياتها وإبقائها سرية قدر الإمكان.
يوضح لنا "ميلز جوناسون" الكاتب بـ"فاينانشيال تايمز" في مقال نشره في أبريل 2017 أن السبب الذي جعل "بافيت" قادراً على تحقيق ما يحققه رغم أنه يشارك مع الجميع كل ما يفعله تقريباً هو قدرته الفذة على استغلال الأخطاء الغبية التي تقع فيها الأغلبية العظمى من البشر، مما يسمح له بالتمتع بميزة مستدامة على باقي السوق.
غباء الأغبياء في القرن الحادي والعشرين!
ربما لا يوجد شيء باستطاعته زعزعة استقرار سوق الأسهم أكثر من غباء المشاركين فيه. وعلى الرغم من أن الغباء قد يكون نقمة على الأغبياء إلا أنه يشكل في نفس الوقت فرصة لغيرهم، وخصوصاً إذا كانت لديهم القدرة على ملاحظته واكتشاف تورط الآخرين فيه.
هناك وقائع كثيرة تثير الضحك وأحياناً الغيظ تورطت فيها أعداد غير قليلة من المستثمرين في أكثر الأسواق تقدماً لا تدفعك فقط إلى الاندهاش من مستوى الغباء الذي يصيب البعض، بل قد تحملك أيضاً على الشك في أن أياً من هؤلاء قد حصل أصلاً على أي قسط من التعليم.
ومن هذه الوقائع حادثة شركة "نيست لابز" في عام 2014. في بداية ذلك العام، أعلنت "جوجل" استحواذها على شركة "Nest Labs" (انتبه جيداً للأسماء) العاملة في مجال كاشفات الدخان ذاتية التعلم في صفقة بلغت قيمتها 3.2 مليار دولار.
بمجرد خروج ذلك الإعلان تسابق المستثمرون على شراء سهم الشركة ليرتفع سعره بنسبة 1900% خلال فترة قصيرة، على خلفية ارتفاع الطلب عليه. لكن كانت هناك مشكلة صغيرة، وهي أن الشركة المستحوذ عليها لم تكن لديها أسهم متداولة لأنها شركة خاصة أي غير مدرجة بالبورصة أصلاً!
مرت عدة أيام قبل أن يكتشف المستثمرون أنهم اشتروا سهم شركة تدعى "Nestor Inc" يشار إليه اختصاراً بـ"NEST" وهي شركة صغيرة تقع بولاية رود آيلاند الأمريكية تقوم ببيع أنظمة مراقبة المرور إلى الحكومات المحلية. شركة لا يجمعها بالشركة المقصودة سوى التشابه الجزئي بالأسماء.
حجم التداول الذي حدث على ذلك السهم في ذلك الوقت كان ضخماً للغاية لدرجة أنه تم تداول 5 ملايين سهم، وهو ما يشير إلى أن أعداداً غير قليلة من المستثمرين وقعت في هذا الفخ.
لكن الجزء المثير من القصة لم يأت بعد. فقد اتضح لاحقاً أن هناك مستثمرين اكتشفوا ذلك اللبس لحظة حدوثه وبينما تقوم هذه الأعداد الهائلة بشراء السهم قاموا هم ببيعه على المكشوف.
الكوميديا السوداء لم تقف عند هذا الحد. فبعد حوالي 9 أشهر من تاريخ هذه الواقعة وتحديداً في أكتوبر 2014 عاد سهم "NEST" ليشهد ارتفاعاً صاروخياً (10000%) تزامناً مع كشف "Nest Labs" على جهاز جديد لكشف الدخان. ومرة أخرى استفادت قلة من غباء الأغلبية.
"أجني المال بدراسة الغباء الطبيعي"
أظهرت هذه الواقعة كيف أن غباء مجموعة من المستثمرين يمكنه مفاجأة ديناميكيات السوق ليخلق فرصاً للمستثمرين الأذكياء الآخرين. ولهذا ليس من المستغرب إشارة البعض إلى سوق الأسهم باعتباره مصيدة الأغبياء.
في ذات المقال الذي ذكرناه بالأعلى أشارت "فاينانشيال تايمز" إلى أنه عندما يتعلق الأمر بالاستثمار فإن الغباء البشري يهزم الذكاء الاصطناعي. بعبارة أخرى، إذا كنت تريد التفوق على السوق فأنت تحتاج إلى أن يكون لديك القدرة على المشي عكس الجميع من خلال القيام باستثمارات تتعارض مع الاعتقادات السائدة في السوق في ذلك الوقت، وهذا شيء يفشل الذكاء الاصطناعي في كثير من الأحيان في القيام به.
إن الكثير من المعلومات والبيانات التي يحاول المستثمرون في سوق الأسهم معالجتها لا معنى لها إلى حد كبير حين نحاول تطبيقها على الشركات بشكل فردي. ولهذا يقول "وارن بافيت": "إن تكوين آراء كلية أو الاستماع لتوقعات كلية من قبل آخرين حول مستقبل السوق ما هو إلا مضيعة للوقت".
ربما بإمكان أجهزة الكمبيوتر معالجة كميات كبيرة من البيانات الاقتصادية لا يستطيع أن يعالج عشرها المستثمر العادي، ورغم ذلك يصعب على تلك الأجهزة إصدار الأحكام النوعية التي يبرع فيها كبار المستثمرين مثل الحكم على شخصية المدير التنفيذي أو متانة العلامة التجارية.
منذ نشأتها ولا يحرك أسواق الأسهم أكثر من الخوف والجشع، ومهما تقدم العالم تكنولوجياً فإن الطبيعة البشرية لن تتغير. وكما قال الملياردير الأمريكي "كارل آيكان" ذات مرة: "بعض الناس يصبحون أغنياء بدراسة الذكاء الاصطناعي، أما أنا فأجني المال بدراسة الغباء الطبيعي".
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}